الشاعر الإعلامي عبدالعالي مزغيش: الجزائر تعيش عزلة ثقافية ودولية

النقاش الأدبي الجزائري تحوّل إلى خصومات على فيسبوك في ظل تقلّص فضاءات اللقاء وفرص التلاقح الفكري.
الثلاثاء 2019/12/03
المعنى هو طائر الشعر النادر

قاد الشاعر والإعلامي الجزائري عبدالعالي مزغيش منذ فترة مواجهة كبرى ضد وزارة الثقافة ووزيرها الأسبق عزالدين ميهوبي، مواجهة انضم له فيها الكثير من المثقفين المطالبين بالإصلاح الجذري والتغيير، وهو ما يستمرّون إلى اليوم في المطالبة به. “العرب” كان لها هذا اللقاء مع الشاعر في حوار حول العديد من القضايا الثقافية.

كان عبدالعالي مزغيش يتمنى منذ سنوات طويلة أن يتفرّغ للكتابة الأدبية، يؤلّف القصائد، ويصطاد اللحظات الحالمة وحتى تلك الواقعية، فيحوّلها إلى نصوص شعرية، ولكنّ الواقع الذي اصطدم به -كما يقول- كان صعبا جدّا وما زال كذلك في بلد لا يستحقّ الوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يحياه اليوم.

فمزغيش، كما يقول عن نفسه، من جيل يمارس اليوم فعل المقاومة للرداءة ولاغتيال المثقف الأصيل في بلده. المقاومة من أجل تحقيق ولو نزر قليل من كرامة الكاتب وهو يشهد سطوة السياسي عليه واحتقار الإداري لطموحاته وتطلعاته. فالمثقف في الجزائر يجد نفسه ملزما بالتحوّل نحو النضال، وهذا ما يستنفد منه طاقاته ويشغله عن ممارسة الإبداع والتألق.

القصيدة والمثقفون

القصيدة العمودية أساس الكتابة الشعرية لدى مزغيش
القصيدة العمودية أساس الكتابة الشعرية لدى مزغيش

ينظر عبدالعالي مزغيش إلى مساره الشعري ويربطه أصلا بكتابة القصيدة العمودية، إذ يقول “القصيدة العمودية أساس الكتابة الشعرية في رأيي، ولا أتصوّر شاعرا مبتدئا لا يمرّ على هذا الرواق الضيق ليجتازه نحو آفاق رحبة للقصيدة. لست ممّن يرفضون الأشكال الحداثية للشعر، بل بالعكس تماما، تستهويني الكثير من التجارب في الجزائر، وفي الوطن العربي وحتى تلك التجارب التي أطالعها مترجمة من لغات أجنبية عديدة”.

ولكن السؤال الأهم في نظره هو “لماذا كلما اتجّه شاعر نحو كتابة الومضة والهايكو والقصيدة النثرية وغيرها، لم ينس انتقاد القصيدة العمودية بازدراء. هذا غير عادل إذا وضعنا في الميزان تجارب شعرية عميقة لم تتخلّ عن الإيقاع الخليليّ، ولم تتهرّب من عمود الشعر. أعطني شاعرا عربيا كبيرا لم يكتب القصيدة العمودية، إن هؤلاء قلّة قليلة، بينما ما زال الكثير من الشعراء يحنّون إلى كتابة القصائد العمودية وفيهم من ارتدّ عن التجارب الحداثية وعاد إلى التجربة الأولى، ويشترط هنا أن يكون التجديد في المعنى. نعم المعنى هو طائر الشعر النادر، ولا يهمّ لون الطائر ولا حجمه ولا اتساع جناحيه، بل ما يهمّ خصوبة الخيال وعمق الفكرة والإحساس”.

 من هنا جرّب الشاعر مزغيش “كتابة مختلف أشكال الشعر، لكن الجلوس إلى نص عمودي فيه ما يسمو بي نحو عوالم كلما ضاقت وزنًا كلما اتّسعت مغامرةً”.. فالرهان عنده كما يقول “أن أعود إلى أوّل منزل سكنته فأعيد ترتيبه بما يجعله منافسا للمنازل المشيّدة بأساليب حداثية، وهذا هو الوفاء للانتماء، انتماء القصيدة العربية للمهلهل والمتنبّي وأبي نواس وأحمد شوقي ومحمود درويش ونزار قباني وعبدالرزاق عبدالواحد والجواهري و.. و.. إلخ”.

ينظر مزغيش إلى المشهد الثقافي في الجزائر المعقد والمتضارب والمتناقض، وإلى الصراعات بين المعرّب والمفرنس، وإلى نقاشات حول الأجيال، بأسف، فنحن يقول “لا نستثمر في نقاشاتنا حتى وإن كانت قليلة، ومؤسف أن تمر النقاشات العميقة مرورا لا تترك وراءه أثرا في الحياة الاجتماعية والثقافية للجزائريين. إننا لا نجد أين نلتقي لنتناقش، والمساحات التي كانت تسعنا في الصحف اليومية ضاقت، بسبب النزعة الاستهلاكية والجشع لدى الناشرين، وبسبب الإنترنت التي أفرغت الساحة الثقافية من روحها، وامتصّت كل حميمياتها، وحتى النقاش الأدبي والفكري تحوّل إلى خصومات فيسبوكية لا تتوقف”.

ويشير إلى أن المثقفين “تراجعوا إلى الوراء، ومع تراجعهم، تقلصت فضاءات اللقاء، وفرص التلاقح الفكري، وتحولت الجمعيات الثقافية هي الأخرى إما إلى ممارسة التجارة، أو ممارسة الكذب على النفس وأحلام اليقظة بأن هناك مجتمعا ما سيتحوّل من نمط حياته المادي والاستهلاكي نحو حياة الفكر والشعر”.

وجّه مزغيش انتقادات واسعة لما حدث ويحدث في وزارة الثقافة مثلما كتب عن فساد ونهب للأموال العامة، ويستعيد تلك اللحظات وماذا حققت من نتائج. يقول “لم أكن وحدي، كنا مجموعة من الشعراء والسينمائيين والمسرحيين والموسيقيين، شكّلنا مجموعة صلبة وما زلنا كذلك، اجتمعنا عدّة مرات، وهيّأنا الظروف لإطلاق بيان للمثقفين والفنانين سرعان ما تلقفته الساحة الثقافية والتحق به المئات في ظرف وجيز. تحمّلنا مسؤولية مواجهة مسؤولي الثقافة وحمّلناهم الوضع الكارثي الذي يشهده القطاع ولم نمارس معهم لعبة الغمّيضة التي يفضل بعض الأدباء ممارستها حفاظا على مكاسبهم”.

مواجهة ثقافية

يعتبر الشاعر أن ما قام به مع غيره “حراك ثقافي سبق الحراك الشعبي في 22 فبراير بحوالي خمسة أشهر، وحين جاءت الثورة السلمية وجدنا الأرضية جاهزة لمواصلة النضال ضد الفساد وتغوّل اللصوص في قطاع الثقافة واستبداد بعض الإداريين على حساب تحسين أوضاع الفنانين والأدباء. وبصراحة، كنا نأمل في الوزير السابق للثقافة عزالدين ميهوبي أن يتكفّل بمطالب المثقفين مباشرة بعد تعيينه وزيرا، فهو ابن القطاع ومحسوب على فئة الكتّاب. وكم كانت صدمتنا فيه قوية ومؤلمة، فبدل أن يعلن ثورة على بقايا خليدة تومي والنخب المغشوشة، قرّب إليه هؤلاء واستبعد كل الأصوات المنادية بالتغيير”.

لا يرى مزغيش أن الفيسبوك سيكون بديلا عن الكتاب والمجلة، فقد صار يقول “عادة من عاداتنا يقطف من أوقات مطالعتنا للكتب ليضمها إليه. الفيسبوك اختصر المسافات، إذ صرنا لسنا في حاجة لتأسيس جمعيات معتمدة، حيث يتطلب الأمر خطوات إدارية ومسارا طويلا ومتعثرا أحيانا، فيكفي أن نفتح مجموعات فيسبوكية لنلتقي ونقرر ونجسّد. فمن ثمرات الفيسبوك أن أسستُ رفقة المخلصين من رفقاء الأدب والفن جمعية وطنية تدعى الاتحادية الجزائرية للثقافة والفنون، في سبيل تحسين أوضاع المثقفين والفنانين اجتماعيا ومهنيا، ولعلّ من أبرز اهتماماتنا العمل على فتح ملفات قانون الكتاب، والسينما، وما تعلّق بالظروف المهنية للفنان والكاتب وتحسين الوضع الاجتماعي لهما”.

كلما اتجّه شاعر عربي إلى كتابة قصيدة الومضة أو الهايكو أو قصيدة النثر لم ينس ازدراء القصيدة العمودية

نقل مزغيش لحظات الحراك منذ بدايته، وكانت صفحته تعج بالمتابعات اليومية له سواء بالكتابة أو الصورة، فهو قبل كل شيء إعلامي عرف كيف يقتنص الصور ويتركها تعبر وتقول، ورغم قوة وصرامة هذه الهبة وتفاؤله بها وما عرفه، يقول “من اهتزازات وما صاحبه من ثرثرة في وسائل الإعلام، إلا أن الهبّة الشعبية التي انطلقت بروح مخلصة للوطن، خالصة شفافة، مفعمة بحب الوطن متشبثة بالانتماء لأرض الشهداء، لا يمكن أن تتراجع إلا بعد أن تحقّق ما اندلعت لأجله”.

ويضيف “الحراك يجب أن يشمل ذهنياتنا كجزائريين ويغيّر من سلوكياتنا ونظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخر، فنحن بلد عرف عزلة ثقافية ودولية رغم كل المحاولات لإنعاش الوضع. وعلى النخب أن تلعب دورا أكبر مما تفعل، وأهم مما هو كائن، وآمل مخلصا أن يفتح المثقفون نقاشات واسعة حول مآلات الحراك، وسبل مواكبته أدبيا وفنيا”.

ويتابع الشاعر “من أجل الحفاظ على مكاسب هذا الحراك، وكي لا يحصل انقلاب على ما حققه ويحققه الحراك يقترح: لابدّ من صنع لحظة فارقة تطلق عهود الأنظمة البائدة، وليس هنا المعني نظام الرئيس السابق فقط، فالنظام كان واحدا منذ 1962.

16