السوري شادي كسحو: الفلسفة فوتت الفرصة لتغيير جلدها

المفكر شادي كسحو يرى أن الفلسفة ليست علاقة باردة مع موضوع أو حدث بل هي اندفاع واستيلاد شكل خاص من أشكال الهروب إلى ذواتنا وإلى العالم.
الجمعة 2021/01/22
الفيلسوف العربي يعاني من الكسل (لوحة للفنان بسيم الريس)

في فوضى عالمية كبرى طالت كل المفاهيم وأسدلت ستارة على ملامح الإنسان المعاصر ووجوده وطريقه وحاضره وحتى ماضيه، استنجد الكثيرون بالفلاسفة، الذين حاولوا التصدي للكثير من الظواهر كالثورات التكنولوجية وحالات الوباء والأخلاق وغيرها من القضايا، بينما في العالم العربي، مازال الفلاسفة يحاولون الخروج من أسوار الجامعات إلى أعماق مجتمعاتهم. “العرب” كان لها هذا الحوار مع المفكر السوري المتخصص في الفلسفة الغربية شادي كسحو حول راهن الفلسفة عالميا وعربيا.

تواجه الفلسفة العربية الراهنة الكثير من الإشكاليات والأسئلة، لاسيما مع التطورات الهائلة للتكنولوجيا وفي مقدمتها تطور الذكاء الاصطناعي. فهذه التطورات انعكست على واقع الحياة البشرية التي تشهد تغيرات كبرى، الأمر الذي دفع جانبا من المفكرين العرب إلى محاولة قراءة الرؤية الفلسفية العالمية ومن ثم تتبع تأثيرات هذه التطورات وقدرة الفلسفة العربية على طرح التساؤلات وفهم الانعكاسات على حياة الإنسان العربي.

واجهت “العرب” المفكر شادي كسحو بالعديد من الأسئلة والإشكاليات، منها رؤيته لقطار الفكر المعاصر في مواجهة عصر الديجتال، موت الواقع، الذكاء الاصطناعي، وكيف يواجه النص الفلسفي النعوات التي تتحدث عن موت الفلسفة وموت الذات وموت الفن؟ كما تطرقنا معه إلى الحديث حول ما يبرر كل تلك الإخفاقات المتكررة للفلسفة العربية بما هي حركة تتجه دوما نحو تعميق الهوة والانفصال بيننا وبين الوجود في العالم الراهن، متطرقين إلى موضعة الفكر الفلسفي في العالم العربي قياسا إلى المشكلات التي يطرحها الفكر الفلسفي العالمي حول نفسه.

الجرح الديجتالي

سوريا

يعتقد كسحو أن النقطة الحاسمة في الإجابة عن التساؤلات التي طرحناها وغيرها، تفترض مسبقا تصورا واضحا عن ماهية الحدث الفلسفي الذي ننتمي إليه. ويقول “لكل جيل من الفلاسفة حدث فلسفي ينتمون إليه. فكانط مثلا كان ينتمي إلى حدث فلسفي يختلف جذريا عن الحدث الفلسفي الذي ينتمي إليه فلاسفة المدرسة الفرنسية مثلا. أنا مؤمن بأن الفكر هو علاقة بالحقيقة، لكن الحقيقة ليست كيانا ميتافيزيقيا معلّقا في الفضاء، بل هي أثر للحدث ومفعول من مفاعيله، سواء تعلق الأمر بحدث علمي أو تقني أو بيولوجي أو سياسي أو فني”.

ويضيف “مادام الأمر كذلك، فإنه من الضروري القول: إن الفيلسوف هو ابن الحدث، لكن الفيلسوف الذي يستحق هذا اللقب بالفعل، لا يدور فقط حول الحدث بل يجعل الحدث مرئيا. وهذا يتضمن القول: إن الفيلسوف كما الموسيقي أو الرسام أو التقني تماما، لا ينقل المسموع، بل يجعل مسموعا شيئا لم يكن مسموعا بعد، وينقل إلى حيز الرؤية ما لم يكن مرئيا بعد، ويجعل قابلا للتفكير ما كان غير قابل للتفكير بعد. إن الحدث، كما يخيّل لي، هو بمثابة قنطرة نمرّ من تحتها. تُسمّينا كما نُسمّيها. يمكن القول بكلمات أخرى: إن كل حدث هو مجموعة من الجروح؛ جروح في الذات، وجروح في الآخر، وجروح في الكينونة”.

ويشير المفكر إلى أن “الجرح الأصلي لعصرنا هو الجرح الديجتالي والليزري والتقني والاصطناعي دون شك. لكن الديجتالي هنا رأس الخطورة، ليس مجرد استعارة، ولا مجازا. ليس أداة ولا وساطة تقنية لكشف العالم، إنه بكلمة واحدة: المفهوم وقد تحول إلى حدث. يا له من رعب أن يصبح الفكر ذاته حدثا أو يتصيّر المفهوم ذاته عالما”.

ويلفت كسحو إلى أنه في مثل هذه اللحظات السحرية من تاريخ العالم، تصبح الأحداث هي العالم نفسه وتزول الحدود الكلاسيكية بين الأزواج الميتافيزيقية التي تميز بين الواقعي والافتراضي، أو بين الحقيقي والزائف، أو بين الإنساني واللاإنساني. ربما يمكن القول بكلمات بسيطة: تتغير كل المواقع والمواضع إلى الأبد.

ويقول “لاحظ معي كل الهجرات والهروبات التي يعيشها عالمنا. من الأصل إلى النسخة، من الواقعي إلى الافتراضي، من الصلب إلى السائل، من النقي إلى الهجين. ربما كان الديجتالي حدثا وبائيا يعجّل بنا نحو الهروب والهجرة والرحيل، لكن المخيف حقا، أنه لا أحد في عصر الديجتال يهرب إلى ذاته، بل يهرب منها إلى الأبد”.

وحول النعوات التي تتحدث عن موت الفلسفة وموت التاريخ وموت الذات وموت الفن، يوضح كسحو “نحن نسمع الكثير من هذه النعوات مؤخرا، لكنني من الذين يرفضون مهرجانات الموت هذه. أتصور أنه يمكن القول: ثمة من يرغب بموت الفلسفة، أو ثمة ما يعيق قدرة الفلسفة على تحقيق ماهيتها، لكن الفلسفة عودتنا دائما على النهوض، لن أقول مثل طائر الفينيق، بل سأقول: مثل تايفون من تحت البركان إتنا”.

لكل جيل من الفلاسفة حدث فلسفي ينتمون إليه
لكل جيل من الفلاسفة حدث فلسفي ينتمون إليه

ويضيف “دعني أكون صادقا معك، أنا ابن الفلسفة لكنني أعترف بأنني ابن عاق لها. أنا لا أؤمن مثلا بأن الفيلسوف هو كيان جامع مانع ويمتلك دون غيره من الشخوص مفاتيح الحقيقة، لكنني بالأحرى، أؤمن بأن لكل خطاب، مهما كان، حصته الخاصة من الفلسفة. يعتقد الناس دوما أن الفلسفة هي حكر على الفلاسفة وأصحاب الاختصاص. هذا الكلام غير صحيح. من يصنع عجينة العالم المعاصر هم في غالبيتهم ليسوا فلاسفة بالمعنى التقليدي، بل ينحدرون من حقول علمية وتقنية وفنية بعيدة شكليا عن الفلسفة، لكنها تصب في نهاية المطاف في صلب التفكير الفلسفي”.

ويقر كسحو بأن كبار المصممين والمبرمجين والفيزيائيين والمعماريين العالميين راهنا يمكن مقارنتهم بالفلاسفة، لا بل هم فلاسفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ويأخذ مثلا فرانك جيري وريم كولهاس في العمارة، أو راي كورزويل في الهندسة الرقمية، كرستوفر نولان وسبلبيرغ في السينما، بيل غيتس وجيمس جوسلينج على مستوى البرمجيات وستيفن هوكينغ في الفيزياء الكونية. هؤلاء يسهمون من خلال صورهم وتصاميمهم وتشييداتهم وإبداعاتهم الرياضية والهندسية في صنع أحداث ومفاهيم العالم ذاتها، بل ويتحسسون تحولاته الجذرية والتقنية والأنطولوجية أكثر من الفلاسفة الذين تشغلهم مشكلات لا تتعدى، في غالبيتها، أروقة المؤسسات الأكاديمية التي تدور بين حفنة من الأساتذة والمتقاعدين والفضوليين.

ويؤكد “ثمة صعوبة شديدة في الحديث عن الفلسفة الراهنة شرقا وغربا، إذ تكفي إطلالة واحدة على ما يجري نشره من مصنفات فلسفية ليتولد لدى المرء الانطباع بأن الفلسفة لم تعد على الإطلاق تحمل تلك الشجاعة من أجل الوجود التي تحدث عنها بول تيليش يوما. كانت الفلسفة تعني دائما أن يستخلص المرء شيئا جديدا مما يحدث. وميضا، لقاء، حدثا، سرعة، صيرورة، كلمة، فكرة. كانت الفلسفة تصنع بالفعل تلك الأحداث الكبرى والصغرى والملهمة. يا له من إحباط شديد ينتاب كل مطّلع على الفلسفة الراهنة، حيث تم التخلي عن كل تلك الرهافة والشجاعة التي تميز الفيلسوف بما هو صديق شبه وحيد للكينونة. سألني مرة أحد تلاميذي عن صورة شاهدها للكاتب السلوفيني سلافوي جيجيك وهو يتأمل بينما يجلس على كرسي التواليت، قال لي: هل هذا فيلسوف؟ لك أن تتخيل معي كم يبدو من المحرج أن يتخذ الفيلسوف اليوم صورة المهرج أو البهلوان”.

فلاسفة كسالى

الفلسفة لم تعد على الإطلاق تحمل تلك الشجاعة من أجل الوجود
الفلسفة لم تعد على الإطلاق تحمل تلك الشجاعة من أجل الوجود

يعتقد كسحو أننا لم نبدأ بعد في فهم العالم الراهن. ويضيف “يخيّل لي أحيانا أن الفلاسفة يعملون اليوم ضد حركة العالم. كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه يقول: الأفعى التي لا تغير جلدها تموت. من عمل بوصية نيتشه؟ من يجرؤ على إخبار نيتشه أن الفلسفة لم تجرؤ على تغيير فساتينها بعد، بل مازالت تستخدمها إلى آخر خيط مهترئ؟ من يجرؤ على الاعتراف أمام ديكارت وسبينوزا وهوسرل وهيدغر وياسبرز أننا مازلنا نمسخ الفلسفة إلى نظرة إيروسية مبتذلة تقوم على حب الحقيقة؟”.

ويتابع “من يقوى على القول أمام جيل من الفلاسفة الشباب: إن الفلسفة فوتت الفرصة تلو الأخرى لتغيير جلدها وأن لحظة إنجازها قد مضت؟ من يستطيع الاعتراف علانية بأن موضوعات الفلسفة الرسمية وتحليقاتها الباطلة حول الله، والكوسموس، واللوغوس، والأنا، والنظرية، والممارسة، والتنوير، والنقد، تبدو قياسا إلى عصرنا مجرد مراوغات وأنصاف حقائق مرصودة للفضوليين وطلاب الدراسات العليا وعلماء الاجتماع؟ بل من يخبر أساتذة الجامعات اليوم: بأن المعنى ذاته ليس أكثر من خطأ تأويلي. عيب فيلولوجي لفلاسفة كسالى؟”.

ويؤكد “نحن أحفاد لا ديكارتيون للفلسفة، وننتمي لحدث أنطولوجي خاص جدا لم يكن بمقدور الفلاسفة الكلاسيكيين ولا حتى مجرد أن يرهصوا به. انظر إلى إنسان هيدغر مثلا: كيان جميل، لكنه لا ينتمي إلينا. إنسان هيدغر يوناني أكثر من اللازم، ورجعي أكثر من اللازم، ورومانسي أكثر من اللازم، والأهم من كل هذا أنني لا أستطيع أن أراه في الشارع. هل رأيت ‘إغريقي هيدغر‘ مرة في الشارع؟ هل رأيت ‘فصامي دولوز‘ أو تواصلي العجوز هابرماس؟ لم لا يفعل الفلاسفة أكثر من النكران وحقن نصوصهم بالفوبيا – تكنولوجي وبأشكال فاقعة من النوستالوجيا المزمنة؟ على الفلاسفة الجدد أن يغيروا أفق انتظار الناس حول الفلسفة، وإلا فإن الفلسفة ستواصل المسير في طريق مسدود”.

ويرى كسحو أن “الفكر الفلسفي في العالم العربي ينتمي إلى مشكلات مزمنة من نوع مختلف تصعب الإجابة عليها ببساطة واقتضاب. لا شك أن هناك محاولات، لكنها تظل محاولات فردية لا يمكن أن تعمل على مستوى عمومي. من ينتج الأفكار في العالم العربي؟ من يمتلك الشجاعة على الاجتراح والوضع والنحت والاشتباك الجذري مع المشكلات القصوية التي نواجهها؟”.

ويضيف “نحن نحيا بين خطرين: الخطر الأول هو خطر الاستبداد السياسي والغياب الأبدي لحريتنا التي تجد دائما مستبدا جاهزا ليمنعها، مستبدا بالغ الضخامة يخترق ذواتنا ويردمها ويخنقها. الغريب والمأساوي فعلا، أن هذا المستبد لا يتخذ شكلا واحدا، بل يطل علينا بألف قناع وقناع، تماما كأفاعي ميدوزا، فهو يتخذ مرة صورة الطاغية، ويتخذ مرة صورة الحاكم العسكري، ومرة يتخذ صورة رجل الدين، ومرة يتخذ صورة التاريخ نفسه. نحن كائنات مصابة بمتلازمة التاريخ كنت قد أطلقت عليها في أحد كتبي اسم: الليل الروحي للأمة وهو الاسم الرسمي للعدم التاريخي المقيم في الروح الإسلامية التي صارت اسما لروح تاريخية متحجرة لا سلب فيها ولا تناقض”.

الفكر هو علاقة بالحقيقة، لكن الحقيقة ليست كيانا ميتافيزيقيا معلقا، بل هي أثر للحدث ومفعول من مفاعيله

وبالنسبة إلى الخطر الثاني، فيلفت كسحو إلى أنه يكمن في كون الفكر الفلسفي في العالم العربي هو فكر مؤسساتي بشكل فج. نشاط أكاديمي ينتمي إلى مؤسسات قديمة ومتعبة وغالبا ما تكتفي بالركون إلى ثقافة الشرح والتعليق.

ويقول “تصور أن كل ما كتب من نصوص فلسفية منذ 50 عاما تقريبا هي مجرد شروحات وتعليقات على فلاسفة غربيين. موضات تلو أخرى وهكذا دواليك. مرة تكون الموضة الفلسفة الوجودية ومرة تكون الوضعية المنطقية ومرة تكون الشخصانية ومرة تكون البنيوية وراهنا ثمة كثير من الهيدغرية مع أشباح وأشلاء دريدا وفوكو بطبيعة الحال”.

وفي رأيه “مازالت المؤسسة الأكاديمية تقوم على الأطروحة. الأطروحة ليست سيئة في ذاتها فهي مرحلة هامة من مراحل تمرين الناشئة على التفكير، لكن السيء والمخجل في الكثير من الأحيان أن تتحول الفلسفة إلى مهرجانات من الشروحات والتعليقات المشوهة والطريفة من أجل الحصول على وظيفة مفكر من الدرجة الثالثة. يقولون في بعض الأروقة: إن الفلسفة بدأت بالانحدار عندما دخلت إلى الجامعة. لست متحاملا على الجامعة، ولا على ما يقدمه الأكاديميون، لكنني متأكد أن الفلسفة ليست علاقة باردة مع موضوع أو حدث، بل هي تهيج واندفاع واستيلاد شكل خاص من أشكال الهروب إلى ذواتنا وإلى العالم. قد يكون شكل الهروب نقطة، أو خطا، أو حتى فاصلة على شاكلة حلم سيوران، لكن الأهم أن الفلسفة ليست مسرحا لعرض كائنات وشخوص دولوزودريدا وهيدغر وهابرماسوريكور، بل مصنع لإنتاج الأحداث. لإنتاج المفاهيم والرؤى، لإنتاج ذواتنا بلا توقف”.

15