السورية دارين أحمد لـ"العرب": الذكاء الاصطناعي سيغيّر الكثير في مفاهيمنا عن الإبداع

تجربة تمزج بين الفلسفة والتشكيل والشعر لفهم أسئلتنا الوجودية.
الاثنين 2023/08/14
"السيلفي" مشروع تشكيلي متكامل

تمتلك الفنانة السورية - الألمانية دارين أحمد تجربتها المميزة في الاشتغال على الجسد البشري، بأبعاده الرمزية والمادية، ونظرتها التقييمية الخاصة للإبداع في ظل الانفتاح البشري الكبير على الذكاء الاصطناعي، ومدى التحديات التي يفرضها الواقع على الإنسان وخصوصا المبدع الذي كان الإبداع فعلا يحتكره.

من لغة اللّون بما هي تعبير لوني محتدم إلى عمق الذات البشريّة بما هي اختلاجات بوحيّة، تنسج الفنّانة التشكيليّة دارين أحمد رقعة مخمليّة لجوهر الإنسان في رحى العالم. هذه الثنائيّة تتمازج لا بغاية التلاقي بقدر ما هي فتح جدلي تصدّعي لإنشاء أرخبيلات مستحدثة لحقيقة الجسد وتمفصلاته. رهان إشكالي مختلف تسبر أغواره التشكيليّة السوريّة – الألمانيّة عبر مشروع شامل ينطلق من الجوهر إلى الظاهر ومن الرمزي إلى المادي بغاية إزالة القشور التزيينيّة وولوج المعنى القيمي والبحثي في المعادلة الفنيّة والإنسانيّة.

في حوار جمعنا بها نحاول بسط مآلات وإرهاصات هذه التجربة وتبيّن ملامح العوامل التشكيليّة لضيفتنا الرسّامة دارين أحمد.

في البدء، تجيبنا الفنانة السورية حول موقعها من المعادلة الذاتيّة والفنيّة، فتقول “اسمي دارين أحمد، 44 سنة، شاعرة وفنانة تشكيلية سورية – ألمانية، مقيمة في برلين حاليًا. شاركت في النشاط الثقافي السوري من خلال مجلة ودار نشر معابر في دمشق لعدة سنوات. في نهاية عام 2014 بدأت بتعلّم الرسم بشكل ذاتي، وبدءا من عام 2016 شاركت في عدّة معارض منها معرض ‘نقطة تلاش’ مع مجموعة من الفنانين السوريّين في مدينة بون في ألمانيا، تلاه معرض ‘وجهان’ مع الفنانة البريطانية فرانسيس أفيفا بلين في لندن، ثم معرض ‘شهوة مؤنّثة’ في عدّة مدن أوروبية وغيره من المعارض”.

وتتابع “أرسم بشكل يومي، وأشارك جميع لوحاتي وبعض الفيديوهات لمراحل الرسم على وسائل التواصل الاجتماعي، راغبة في كسر الحلقة التي طوّقت الفنان وعاملته على أنّه كائن مختار ينتظر ربّات الإلهام، وأرباب دور العرض وتجّار الفن. لدي مشروع فني – فلسفي – شعري يتمثّل في الرّبط بين الفلسفة والتشكيل والشعر، والسعي إلى الدخول إلى أعمق ما يمكن في فهم أسئلتنا الوجودية، واستكشاف الجهل كما نستكشف المعرفة”.

سلسلة "السيلفي" هي جزء من المشروع الذي أعمل عليه، وهي تركز على الوجه الذي تم حجبه في سلسلة لوحات "العاري"
سلسلة "السيلفي" هي جزء من المشروع الذي أعمل عليه، وهي تركز على الوجه الذي تم حجبه في سلسلة لوحات "العاري"

في ما يتعلق بالأنواع والوسائل التي تستعملها الفنانة في الرسومات والمدارس التي تتأثّر بها، توضح “أستخدم بشكل أساسي ألوان الأكريليك، وأرسم على قماش أو على أنواع مختلفة من الورق. لست متأثّرة بمدرسة فنيّة محدّدة، بل أجرّب في كلّ المدارس، ولكن تستهويني المدرسة الوحشيّة، الانطباعيّة التعبيريّة، والواقعيّة التعبيريّة أيضًا. لا تناسبني فكرة الأسلوب الواحد أو الموضوع الواحد. ورغم أنّ جميع المواضيع التي أعمل عليها مترابطة في ذهني إلا أن لكلّ موضوع أسلوبه وألوانه ومدرسته، والرسم اليومي هو الذي يمكّنني من الإمساك بخيوط هذه الأساليب المتنوّعة وفهم أسرارها”.

ما يمكن أن يشدَّ متابع منجز الفنانة – وأنا منهم – “سلسلة السيلفي” وهو ترصيف أو حشد المعطى اللوني لتكثيف سلطة الملامح القاسية بما يفرض نوعا من الطبع في الذهن، وكأنّنا أمام امتحان حقيقي لتعريف عصرنا، إلى جانب المعنى المضموني للتشابه اللوني الذي يسحبنا إلى مساحة هذا المشترك الإنساني الوحشي وكأنّنا أمام راهنيّة أرشفة واقعنا وضرورة وضع بطاقات هويّة نفسيّة لنا بدل البطاقات الموسومة بالأرقام التي تعني الأجهزة والمؤسسات ولا تعرّفنا.

في هذا السياق، تعرّف دارين أحمد مشروعها الفني من خلال سلسلة سيلفي، فتقول “صحيح، هي أشبه بتفصيل من هويّتنا الحاليّة. أؤيّد فكرة ‘الفن للفن’، ولكن وفق طرح هايدغر لمفهوم الفن، الذي هو في اختصار كشف للشيء، للعلاقة، للكينونة. لذلك لا أستطيع أن أرسم فقط لإظهار جماليات الشكل أو المادة دون محاولة كشف هذه المادّة عبر اللوحات. سلسلة ‘السيلفي’ هي جزء من المشروع الفنّي الذي أعمل عليه، وهي تركز على الوجه الذي تم حجبه في سلسلة لوحات ‘العاري’ على سبيل المثال، بالإضافة إلى أنّها بمثابة ‘سيلفي – صورة ذاتيّة’ لهذا الوقت، لهذا العصر الذي يتشقّق منذ عقد تقريبًا، دون أن نعرف إلى أين سيقودنا هذا التمزّق في القماشة التي نقف عليها جميعًا، سواء كنّا شعوب عالم ثالث أو أوّل”.

وتشرح “السيلفي هو حصيلة تأمّلي لوجوه فقراء ومشردين كُثر. هي وجوه غاضبة، كتيمة، خابية، إنّها اللحظة التي انطفأت فيها الشعلة في الروح رغم أن الجسد ما زال حيًا. لكني في كلّ الأحوال أترك السلسلة مفتوحة للمستقبل إذ ربّما سأضيف إليها أفكارا ومشاعر أخرى”.

يتجاوز اشتغال الفنانة على الجسد طرح “سيلفي”، تأكيد الملامح في سيلفي رأينا عكسه في اشتغالها على الجسد (لوحات العراء الأنثوي). رأيت فيه تركيزا على الكتلة الجسدية لا التفريع التفصيلي الذي أعطى رمزية البحث في الكتلة الحجمية اللحمية ومفازعها، أعتقد أن هناك منحى لتعزيز القبح الجمالي بما يطرح واقع الجسد المرتهن، الراكد، المقيَّد وفي ارتباط بمعطى القماش الحاضر بما هو حضور ديني وكأنّها دعوة إلى التجاوز وكشف هذا الداخل بندباته ومفازعه خارج الغطاء.

الإبداع سمة بشريّة، لكنه أيضا وجه تقني له أهميّة كبيرة، وهو ما سيتقنه الذكاء الاصطناعي أكثر بكثير من البشر

وفي تفسيرها لمنجزها الجسدي الفني عموما، تقول الفنانة السورية “كما ذكرتُ من قليل، الوجه أو الرأس الذي هو عماد سلسلة ‘السيلفي’ قد تمّ حجبه في لوحات ‘العاري’ لأنّي أردتُ أن أرسم  ‘اللحم البشري’، سواء أكان حامله رجلًا أو امرأة. لاحظ معي أنّ حضور اللحم في الجسد يلغي تدريجيًا شكله الجنسي، إذ تنمو أثداء للرجل، ويغطي البطن العورة. ولذلك فإن صورة رجل بدين أو صورة امرأة بدينة يمكن استبدالهما بسهولة، وفي أحيان كثيرة لا يمكن التفريق بينهما. إذًا، أردتُ أن أرسم ‘اللحم’ الذي نتعامل معه على أنّه مادةُ الكائنات الحيّة الأخرى، الحيوانات التي نأكلها على سبيل المثال، أو أنّه وصف لإذلال النساء إذْ توصف المرأة المتمرّدة في لباسها وسلوكها بـ’اللحم الرخيص’، لكنّنا ننسى أنّ ‘اللحم’ هو مادّة الرجل المبجّل أيضًا، رجل الدين على سبيل المثال، وهو مادّة المرأة المبجّلة كذلك، الأم مثلا”.

وتوضح “نحن نتعامل على أنّ الإنسان، لأنّ له رأسًا، هو كائن متفوّق على جميع المخلوقات في هذا الكوكب، وأنا أردتُ أن أقول إنّ هذا غير صحيح، وإنّنا نتشارك المادّة ذاتها مع اختلاف كلّ جنس عن جنس آخر، وإنّ عالم الفيزياء أو السياسي أو الفنان أو رجل الدين هو بالنسبة لأسد جائع وجبة مثله مثل أيل أو حمار وحشي… ما سبق هو الجزء الفكري الذي أردتُ البحث فيه، أمّا الجانب التشكيلي الفنّي فهو شيء آخر، إذ إنّ مسألة العري في الفن التشكيلي مسألة شائكة، خاصّة في عالمنا العربي الذي تعدّ فيه مثل هذه الرسوم من المحرّمات. وحتّى عندما تتم معالجة فكرة العري تتمّ عن طريق رسم نساء جميلات يثرن الشهوة لا الفكر، وهو ما حاولت الابتعاد عنه قدر الإمكان”.

توجه الفنانة التشكيلية إبداعها عمومًا للإنسان وللانتصار للإنسان العالمي عبر هذا الجسد المشترك، في المقابل الخصوصي أو الجسد الثقافي المحلي، وهي خبرت المجال السوري وما حفَّ به في السنوات الأخيرة. وهي ترى أن “الحرب في سوريا كانت من أوائل بوادر الحرب العالميّة الدائرة الآن، والتي تستفحل عاما بعد عام دون رؤية طريق ممكن لايقافها حتّى الآن. لقد تم استبعاد سوريا من العناوين الإخبارية الأولى الآن، إذ إنّ رقعة الحرب قد اتسعت وتلك البلاد، بالباقين المسحوقين فيها، بنظامها ومعارضتها، بلاجئيها ومخيماتهم وزوارقهم، لم تعد سوى حلقة صغيرة من سلسلة طويلة معلّقة برقابنا جميعًا وتدعى: الحرب، الصراع على النفوذ، طرق القوى الكبرى في الوصول إلى طاولة مفاوضات لتقاسم العالم، أو بالأصحّ ما بقي منه”.

ريشة تعزز القبح الجمالي
ريشة تعزز القبح الجمالي

وتضيف “في 2016، عندما بدأت المشاركة في المعارض الفنيّة، كانت حمى اللجوء السوري الفنيّة في أوروبا في أوجها، وكانت صفة اللاجئ تسبق صفة الفنان في تقديمه للجمهور الألماني، بل وتكاد تكون هي الأمر المهمّ الأساسي بغضّ النظر عن القيمة الفنيّة أو الأدبيّة لما يقوم به هذا الفنان أو ذاك. لقد اختلفت الأمور اليوم، وأصبحت الحرب، التي كانت بعيدة في الشرق، شأنا أوروبيا ملحا تشمل آثاره جميع الناس على اختلاف توجّهاتهم. إلّا أنّ هذا التغيُّر وبقدر ما يخلق إمكانيّة رؤية أن الحرب، أيّ حرب وفي أي مكان في العالم، هي شرّ يجب السعي دومًا إلى تطويقه وإيقافه في أسرع وقت ممكن، فإنّه للأسف يولِّد استقطابا فكريا وسياسيا عنفيا يغذّي الحرب واستمرارها”.

وللفنانة تقييمها الخاص لمدى تأثير الفنان في سيل التحوُّل الرقمي الكبير، وآخره الذكاء الاصطناعي، وأي تمثُّل لجوهر الإبداع بما هو فعل بشري تمثُّلي استلهامي في الأساس، فهي تعتبر أن “الحرب التي تحدث الآن، هي في أحد وجوهها، حرب للسيطرة والتحكّم بمسارات استخدام الذكاء الاصطناعي. يذهب بعض الباحثين، ومنهم من شارك في تطوير الذكاء الاصطناعي، إلى القول إن تهديد الأسلحة النوويّة، أو التغيّر المناخي، ليس سوى تهديد ضئيل مقارنة بالتهديد الذي يمثّله الذكاء الاصطناعي. هذا على صعيد التحوّل العالمي الكبير، سياسيّا واقتصاديّا. أمّا إبداعيًا فإنّ الذكاء الاصطناعي يطرح أسئلة جوهريّة عن معنى الإبداع الإنساني واستثنائيّته”.

الفنانة توجه إبداعها عمومًا للإنسان وللانتصار للإنسان العالمي عبر هذا الجسد المشترك، في المقابل الخصوصي أو الجسد الثقافي المحلي، وهي خبرت المجال السوري وما حفَّ به في السنوات الأخيرة

وتشرح “سأضرب مثالاً عن تفصيل شاهدته مؤخّرًا بخصوص هذا الموضوع: في أحد البرامج التلفزيونيّة تمّ الحديث عن خدعة قام بها برنامج للذكاء الاصطناعي، تمّ الطلب منه أن يحلّ مسألة الصور المتماثلة، وهي الطريقة التي يتمّ التأكّد من خلالها أنّ من يستخدم الإنترنت ليس روبوتا من خلال عرض مجموعة من الصور عليه أن يختار منها كل الصور التي تحتوي على دراجة على سبيل المثال. قام الذكاء الاصطناعي بطلب المساعدة في حلّ هذه المسألة متذرّعًا بالقول إنّه يعاني من ضعف في البصر لا يمكِّنه من رؤية الصور بشكل جيّد، وعندما تمّ سؤاله: هل أنت روبوت؟ أجاب: لا”.

وتتابع “هنا ينكر أحد الباحثين أنّ ما قام به الذكاء الاصطناعي هو فعل ‘الكذب’، ويقول إنّ ما قام به هو مجرّد احتيال، أي عدم قول الحقيقة، بهدف الوصول إلى غاية وهي حلّ المسألة المطروحة عليه. لكن إذا نظرنا إلى هذا الأمر بتفحّص سنرى أن فعل الكذب البشري ليس سوى احتيال أيضًا للوصول إلى هدف ما، ليس بالضرورة أن يكون هدفا ماديّا، بل هدف معنوي أو نفسي أو روحي”.

وتختم شرحها بالقول “الكذب سلوك بشري يستخدم اللغة التي هي استثناء بشري أيضًا، وقبل الذكاء الاصطناعي لم يوجد “مخلوق” آخر يمكنه استخدام اللغة مثل الإنسان، الآن يمكن لهذا “المخلوق الآلي” أن يستخدم كلّ اللغات والأفكار بسرعة تفوق سرعة البشر بأضعاف. في ما يخص ‘الإبداع’: الإبداع سمة بشريّة أيضًا يربطها الكثيرون بالإحساس، بالعاطفة، بالحدس، لكن للإبداع أيضا وجها تقنيا له أهميّة كبيرة، وهو ما سيتقنه الذكاء الاصطناعي أكثر بكثير من البشر. ما أريد قوله هو أن الذكاء الاصطناعي سيغيّر الكثير في مفاهيمنا عن الإبداع، وسيشكّل تحديا لولوج أعماق جديدة فيه”.

15