السلطات المصرية تضيق ذرعا بالإعلام المشكك في مواقفها دون سند

تواجه الحكومة المصرية انتقادات بشأن تعاملها مع الإعلام المعارض بطريقة تنم عن خشونة غير مبررة، ما يجلب لها منغصات سياسية ويمنح بعض المنابر المزيد من الشهرة والانتشار، خصوصا في توقيتات تستدعي المزيد من التعقل.
القاهرة - حمل التحقيق القضائي مع رئيسة تحرير موقع “مدى مصر” المستقل، رسالة صارمة من الحكومة والهيئات الإعلامية التي تدير المشهد بأنه لن يُسمح لأي وسيلة بتجاوز الخط المرسوم للمنابر الإعلامية، ولا نية للتراجع عن تطبيق مفهوم الحريات المنضبطة كأساس لعلاقة الحكومة مع المؤسسات المختلفة طالما تعمل في مصر.
وارتبطت الصرامة الحكومية بتصاعد الأزمات المتعلقة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومحاولة بعض المواقع الإخبارية المعارضة تأليب الرأي العام المصري على النظام بنشر بعض المعلومات التي تفتقد للتوثيق، بما يلحق الضرر بالأمن القومي من خلال تجاوز الحريات الإعلامية بطريقة خاطئة عبر التشكيك في مؤسسات الدولة.
واستدعت نيابة استئناف القاهرة الصحافية المصرية لينا عطاالله رئيسة تحرير “مدى مصر” لمواصلة التحقيق في قضية تعود وقائعها إلى نوفمبر الماضي، لكن جاء توقيت الاستدعاء مثيرا للريبة، وبعد نشر الموقع تحقيقا صحفيا حول رجل الأعمال إبراهيم العرجاني، واتهام شركة تابعة له بتحصيل أموال نظير إدخال فلسطينيين إلى سيناء، وهو ما سبق أن رددته مواقع إلكترونية إخوانية.
وجاء في التحقيق المطول الذي بثه “مدى مصر” أن العرجاني يتحكم في عملية عبور الجرحى إلى المستشفيات المصرية، وكل من يرغب في مغادرة غزة عليه أن يدفع مقابلا للشركة المملوكة لرجل الأعمال، وهو ما يتعارض مع مبادئ السلطات المصرية التي تتعامل بشكل إنساني في نقل الجرحى وإدخال المساعدات.
والمفارقة أن رئيسة تحرير “مدى مصر” لم يتم استجوابها أمام النيابة حول التحقيق الخاص برجل الأعمال، واقتصر الأمر حول مناقشتها في اتهام تقدم به المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في نوفمبر الماضي حول تقرير تناول سيناريوهات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وفي سياق متابعة نتائج العدوان الإسرائيلي على غزة.
وربط كثيرون بين الاستدعاء المفاجئ في قضية قديمة وبين التحقيق الخاص برجل الأعمال، ما يعكس معاناة بعض الدوائر الحكومية من أزمة في اختيار التوقيت الذي تتعامل به مع وسائل الإعلام، ولو كانت الأخيرة ارتكبت أخطاء تستوجب المساءلة، لكن الطريقة توحي بأن الحكومة لا يتسع صدرها للنقد، ولو حقق مصلحة عامة.
واعتادت بعض المواقع الإخبارية المستقلة في مصر وضع نفسها تحت مساءلة الحكومة من خلال نشر معلومات حول قضايا بالغة الحساسية دون الاستناد إلى مصادر موثوقة، وترتكن غالبا إلى مصادر مجهّلة، ما يدفع الهيئات المسؤولة عن إدارة وتنظيم المشهد إلى معاقبة بعض المنابر بالحجب أو الإحالة إلى النيابة العامة.
ويؤاخذ على الحكومة وبعض الهيئات التابعة لها، أنها تبارز الإعلام المعارض بطريقة تثير تحفظات ضد النظام برمته، حيث تستخدم سلاح التعامل القانوني كوسيلة للعقاب بدلا من الرد وتفنيد الادعاءات وتوضيح الصورة كاملة، مع أنه يمكن بسهولة تجنيب السلطات اتهامات بالتضييق والمطاردة عبر التعاطي بشكل أكثر إيجابية.
التحقيق القضائي مع رئيسة تحرير موقع “مدى مصر” المستقل حمل رسالة صارمة من الحكومة بأنه لن يُسمح لأي وسيلة بتجاوز الخط المرسوم للمنابر الإعلامية
وأحال المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام موقع “مدى مصر” إلى النيابة العامة وقرر حجبه لستة أشهر، ورئيسة التحرير يتم استدعاؤها للتحقيق بسبب تقرير عن سيناريوهات تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، مع أن الدولة بمختلف مؤسساتها المعنية، دحضت تلك الادعاءات، سواء أكان مصدرها مسؤولين دوليين أم منابر معارضة.
ويرى مراقبون أن معضلة الحكومة المصرية تكمن في تعاملها مع الإعلام المعارض بطريقة تنم عن خشونة غير مبررة، ما يجلب لها منغصات سياسية في غنى عنها، وتمنح بعض المنابر المزيد من الشهرة والانتشار مع أن التجاهل أحيانا والرد العقلاني في مناسبات أخرى قد يجعلان الحكومة في مركز قوة.
ويقول هؤلاء المراقبون إن مجلس الإعلام يتحمل جزءا من تشويه صورة النظام في تعامله مع المنابر المعارضة، إذ يستسهل الإحالة إلى التحقيق القضائي والتلويح بالحجب من دون التعاطي بحنكة مع الوسيلة المعارضة التي نشرت ما يتعارض مع سياسة الدولة، لكن هناك توقيتات تستدعي المزيد من التعقل.
ومشكلة بعض المواقع المستقلة في مصر أن لديها حسابات تتعارض أحيانا مع سياسة الدولة وحدود الحفاظ على أمنها القومي، فلدى القاهرة موقف واضح من مسألة التهجير إلى سيناء وترى أن ذلك تصفية للقضية الفلسطينية ويحمل تهديدا مباشرا لمصر، لكن “مدى مصر” يداوم على نشر روايات مناهضة من مصادر مجهّلة.
وقالت مصادر مصرية لـ”العرب” إن الحكومة ضاقت ذرعا من بعض وسائل الإعلام التي اعتادت التشكيك في مواقف الدولة الرسمية، وهناك شبهات تعمد بالبحث عن وجهات نظر مناهضة لسياستها لإثبات أن النظام يكيل بمكيالين، وأن “السلطة لو كانت ضد النقد البناء لما سمحت للعشرات من المواقع المعارضة بالعمل على أراضيها”.
الحكومة مقتنعة بحتمية وجود أصوات مختلفة، لكنها ملّت التشكيك في كل رواية أو موقف للدولة لمجرد المعارضة
وأكدت المصادر شبه الرسمية أن “الحكومة مقتنعة بحتمية وجود أصوات مختلفة، بما ينفي الاتهامات التي تطالها بالتضييق على مساحة الرأي وحرية التعبير، لكنها ملّت التشكيك في كل رواية أو موقف للدولة لمجرد المعارضة، فهناك سياسة واضحة ومعلنة في كل المناسبات فيجب على الإعلام احترام ذلك بلا التفاف أو تزييف”.
ويعتقد خبراء في مجال الإعلام أن الحكومة تتحمل جزءا من مسؤولية انحراف بعض المواقع المستقلة عن مسارها بنشر معلومات مشكوك في صحتها، لأنها تراخت عن إقرار تشريع يبيح حرية تداول المعلومات، ما ساهم في زيادة انتشار الشائعات والمعلومات المزيفة بشكل ألحق الضرر بالنظام، في ظل وجود قوى معارضة تستثمر ذلك لإثارة الرأي العام في مصر.
وقال نقيب الصحافيين الأسبق يحيى قلاش إن الحكومة مطالبة بتغيير أسلوب التعامل مع الإعلام المستقل، والسياسة الأجدر بالتطبيق أن يتم الرد على ما تراه يحمل معلومات مغلوطة دون استهداف أو تربص، والحكومات الرشيدة تمنح الأصوات المعارضة قدرا من التحرك، ويجب الاقتناع بأن الرأي لا يصحح بالتوضيح.
وأضاف قلاش لـ”العرب” أن الحريات الإعلامية لا يجب أن تكون مرهونة بسقف زمني أو توقيت سياسي، وإن كانت هناك أخطاء تعالج بحكمة فهناك مؤسسات إعلامية تتمتع بالاصطفاف خلف الحكومة، ولا مانع من وجود أخرى لديها صبغة معارضة، ويجب امتلاك أساليب للرد على الأخطاء المهنية بلا تلويح بالعقوبات.
ولدى دوائر النظام في مصر قناعة لا تتغير تجاه الإعلام المعارض، وأن أيّ جهة رسمية في الدولة ليس مطلوبا منها مجاراة المنابر المختلفة معها، في تسريب معلومات قد تلحق الضرر بالأمن القومي، ويجب أن يعي الإعلام المستقل تلك المعادلة إذا أراد تجنيب نفسه الاتهامات التي قد تطاله عندما يتجاوز الحد المسموح به.
تدافع بعض الأصوات الرسمية عن التراخي في إصدار قانون حرية المعلومات كبديل عن العقوبات المرتبطة بنشر الأكاذيب، بأن تورط وسائل الإعلام التابعة والمتحدثة بلسان جماعة الإخوان في العديد من جرائم التحريض السنوات الماضية وحتى الآن، ضاعف هواجس الحكومة في تعاملها مع أي تشريعات تتيح حرية عمل الإعلام.