السكن ضمن خطة الحكومة التونسية لاستعادة الدولة دورها الاجتماعي

يراهن الرئيس التونسي قيس سعيد منذ وصوله إلى السلطة نهاية العام 2019 وخصوصا بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021، على إرساء مفهوم “الدولة الاجتماعية الديمقراطية”، من خلال الاهتمام بالخدمات الاجتماعية للتونسيين والعمل على تحسينها على غرار التعليم والصحة والسكن وغيرها.
تونس - كشفت الإجراءات التي اتخذتها السلطات التونسية في الفترة الأخيرة عن مراهنة جدية منها لتكريس الدور الاجتماعي للدولة والاهتمام بالجانب الاجتماعي والمعيشي للتونسيين والعمل على معالجة مشاكل قطاعات مهمة على غرار السكن.
ومنذ إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021، اتضحت سياسات الرئيس قيس سعيد ذات الصبغة الاجتماعية والمعيشية، وهو ما يعزوه بعض المراقبين إلى استعادة الدور الاجتماعي للدولة أو تكريس مفهوم “الدولة الاجتماعية الديمقراطية”.
واتّضح ذلك من خلال محاولات السلطة في الفترة الأخيرة حلحلة بعض الملفات الاجتماعية الشائكة والمتوارثة، على غرار الدعوات إلى معالجة ملف عمال الحضائر والمدرسين المؤقتين (النواب) وتحسين خدمات الصناديق الاجتماعية.
والتقى قيس سعيّد مساء الخميس بقصر قرطاج الرئيس المدير العام للشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية، فهمي كمون.
وذكّر قيس سعيد، وفق بلاغ صادر عن الرئاسة التونسية، بالدور الذي قامت به هذه الشركة منذ إحداثها سنة 1957 في بناء أحياء جديدة بأثمان كانت في متناول الكثيرين.
وأشار البلاغ إلى أن الأراضي، التي هي على ملك الدولة وأُقيمت عليها أحياء كاملة، كانت تُمنح للشركة بالمليم الرمزي في تناغم واتساق كاملين مع الدور الموكول للدولة، فضلا عن اعتماد طريقة التسويغ التي تُكلّل بالبيع، حيث استفادت منها شرائح واسعة ذات دخل محدود.
كما أسدى الرئيس سعيّد تعليماته بأن يتم التنسيق مع كل الجهات المعنية حتى تستعيد هذه الشركة دورها الاجتماعي في توفير المسكن اللائق بأسعار تأخذ في الاعتبار الأوضاع الاجتماعية.
وتفاقمت معاناة التونسيين خلال السنوات الأخيرة، حيث وجدوا أنفسهم أمام صعوبات تحول دون امتلاكهم مساكن بعدما دخلت السوق في حالة من الركود بسبب ارتفاع كبير في أسعار العقارات والأراضي ومواد البناء.
وأفاد الكاتب والمحلل السياسي باسل الترجمان بأن “موقف الرئيس سعيد يأتي خصوصا مع الارتفاع غير المسبوق في أسعار المنازل والشقق في تونس، كما أن الشركات العقارية من بين أدوارها توفير المساكن بأسعار مناسبة، في ظل معدّلات الأجور الضعيفة في البلاد.”
وأكد في تصريح لـ”العرب” أنه “تم تهميش هذا القطاع في السنوات الأخيرة لأغراض سياسية بالأساس، ومشروع الرئيس سعيد هو تأسيس الدولة الاجتماعية العادلة، وهي التي تسعى إلى توفير الحدود الدنيا لمواطنيها من الحاجيات الاجتماعية.”
ويقدر خبراء في السوق المحلية حجم الارتفاع في أسعار العقارات خلال السنوات الماضية بأكثر من 30 في المئة.
وتظهر التقديرات أن ربع الأسر من بين 3 ملايين عائلة لا تملك مسكنا، أي ما يعادل 750 ألف أسرة في بلد يبلغ تعداد سكانه 12 مليون نسمة، وهو ما دفع الخبراء إلى التأكيد على أن هذا المأزق يتطلب رؤية لتنشيط العقارات والبناء والقيام بإصلاحات شاملة.
وقال المحلل السياسي والخبير الأمني خليفة الشيباني إنها “ثورة ذات بعد اجتماعي، وعناوين ثورة 2011 هي اجتماعية وليست سياسية”، مضيفا “أمام التهاب أسعار المنازل أصبح من الصعب على المواطن التونسي امتلاك مسكن.”
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن “الموظف متوسط الدخل كان قبل 2011 قادرا على شراء مسكن، لكن الآن المواطن بأجره الحالي غير قادر على ذلك، والسكن هو حقّ دستوري.”
وتابع خليفة الشيباني “هناك إقرار من الرئيس سعيد بضرورة أن تتدخل الدولة وأن المواطن أصبح غير قادر على شراء منزل، كما أن هناك قطاعات إستراتيجية، وجب على الدولة أن تتدخل فيها على غرار التعليم والصحة والسكن والنقل، والتونسيون لاحظوا أن الرئيس سعيد يتّخذ قرارات مهمة في عدّة ملفات.”
وارتفعت أسعار العقارات المبنية في تونس بنسبة 3.5 في المئة بين الربع الأول من 2024 والربع الأخير من 2023، وفق آخر إحصائيات للمعهد الوطني للإحصاء.
وذكر معهد الإحصاء، في نشرية مؤشر أسعار العقارات للثلاثي الأول من سنة 2024، أنّ الزيادة المسجلة في أسعار المباني في منعطف سنتي 2023 – 2024 تعتبر أكثر اعتدالًا مقارنة بالتباين الملحوظ في الأسعار بين الثلثين الثالث والرابع من العام 2023.
كما سجلت أسعار الأراضي السكنية ارتفاعًا سنويًا بنسبة 4.9 في المئة على المستوى الوطني، بنسبة 3.4 في المئة للمدن الساحلية و5.8 في المئة لبقية المناطق، حسب ما جاء في التقرير ذاته.
وأكد الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم أن “الارتفاع الكبير في أسعار العقارات في تونس يعود إلى اعتقاد سائد منذ سنوات الألفين وبعد الثورة بأن العقار هو الملاذ الآمن للحفاظ على قيمة الأموال،” قائلا إن “هذا التصور أدى إلى انتشار ظاهرة بناء العقارات والمضاربة بها، ما تسبب في استمرار ارتفاع الأسعار بشكل مطرد.”
وأوضح في تصريح لإذاعة محلية أن “البعض يُرجع ارتفاع أسعار العقارات إلى زيادة أسعار المواد الأولية”، لكنه شدد على أن “السبب الرئيسي هو ارتفاع أسعار الأراضي، إلى جانب ندرة الأراضي المخصصة للبناء العقاري.”
ودعا الحاج سالم إلى “ضرورة تنظيم قطاع البعث العقاري ومراقبة الأسواق العقارية للحد من المضاربة وإيجاد حلول جذرية للأزمة التي تثقل كاهل التونسيين الباحثين عن سكن بأسعار معقولة.”
وفشلت الحكومات المتعاقبة منذ 2011 في حل الأزمة أو على الأقل الحد من مشاكل الإسكان على اعتبار أن سوق العقارات ظل رهينا للمضاربات وارتفاع التكاليف وعدم قدرة الكثيرين على تحمل أعباء إضافية لتدهور قدراتهم الشرائية، وهو ما حد من زخم التملك.
وفي أغسطس الماضي أجرى قيس سعيّد تعديلا وزاريا جذريا، اعتبر مراقبون أنه ذو بعد اجتماعي ويهدف إلى تكريس الدور الاجتماعي للدولة.
ولم تعد رهانات السلطة سياسية بقدر ما تطمح إلى تحسين الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والمالية للبلاد، في خطوة تعلن الانتقال إلى مرحلة البناء الاجتماعي.
ويتبنّى الرئيس سعيد مواقف واضحة في إطار مسار 25 يوليو 2021 من أهمها رفض خصخصة المؤسسات العمومية ورفع الدعم ومعالجة آليات التشغيل الهشة، وهي مؤشرات تخدم الجانب الاجتماعي.