السعودية تقود حركة الإصلاح من بوابة الثقافة في مواجهة العولمة

دول تقف ضد مشروع فرض ثقافة واحدة على كل الحضارات.
الخميس 2023/02/16
السعودية تراهن على خصوصيتها الثقافية

لا يخفى على أحد السعي الغربي وتحديدا الأميركي الحثيث من خلال العولمة إلى خلق إنسان واحد متشابه من شرق الأرض إلى مغربها، ولا يحدث ذلك إلا بإلغاء الاختلاف الثقافي من خلال التنفير من الثقافة والإرث المحليين وطرح ثقافة جديدة تعد بالحرية وتحقيق الذات، وهي مغالطة كبرى. ولعل تفطن الكثير من الدول مثل الصين واليابان وحتى روسيا ودول الخليج على رأسها السعودية إلى ذلك ساهم في خلق رؤى مغايرة تستغل الثقافة بشكل أساسي للحفاظ على التوازن العالمي.  

بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية، تفاجأ المتتبعون بردّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إذ بدت للبعض سياسية، واختزلها آخرون فيما هو اقتصادي، وإن كان فيها شيء مما ذكر، فقد كان جوهرها ثقافيا.

لم يكن ذلك الرد مجرد رد على رئيس أميركي في أوجه مواجهته لعالم جديد، بأقطاب أخرى ومراكز قوة جديدة صاعدة، بل كان الرد السعودي على مشروع غربي، تتزعمه الولايات المتحدة، وحتى لا نسميها، هيمنة، أو القطب الواحد، فقد اتخذ لنفسه تعبير العولمة، فما هي رهاناته، وسبل الرد عليه عربيا من خلال السعودية؟

القيم وحساسية تجديدها

لا معنى للعالم إن تطابقت ثقافاته وغدت حضاراته متجانسة مع بعضها البعض، فالاختلافات ليست صراعات بالضرورة

العولمة ليست مجرد فتح أسواق لسلع أو تحرير التبادل التجاري من كل حمائية جمركية، بل هي مشروع فرض ثقافة حضارة على كل الحضارات، لتصير ممثلة للإنسانية، وملغية لكل خصوصية ثقافية، إما بحجة قدمها وتقليديتها أو عدم تجاوبها مع القيم الغربية، التي فيها ما تطمح إليه كل الحضارات والثقافات، مثل العلوم ومختلف المعارف التي تغني الإنتاج الرمزي للإنسان، بما هو مبدع للمعاني ومجدد لها.

هناك قيم لا تقبلها كل الحضارات وإن اعتبروها تعبيرا عن الحرية الشخصية، فحتى الصين وروسيا لا تقبلان مثلا بالمثلية الجنسية وزواج ذوي الجنس الواحد، فما بالك بالتشريع القانوني لها، فالقوانين نفسها، ترفض المس بقيم الغير واستفزازهم بما يتعارض مع معتقداتهم علنا، لأن المشترك أساسي لبناء المجتمعات، التي لها ما تتأهل به لبناء ذاتها وتحصينها بما يجعلها مستقرة وقوية النسيج الاجتماعي، الذي تعتبر الثقافة لحمته، لكن هل معنى ذلك رفض التجديد والانغلاق حفظا للتقاليد؟

الإصلاح في شكله الديني وما سوف يليه ضرورة حضارية لها رمزيتها بحكم انطلاقها من المملكة العربية السعودية

القيم كضابط للعلاقات بين البشر تحتاجها كل المجتمعات البشرية، ولذلك، حتى القوانين تكون منسجمة معها، وعاملة على حمايتها، ولذلك فوتيرتها في الحركة وحتى التحول ليست كوتيرة السياسي والاقتصادي وإن كان شرطا لها، كما أن تجديدها لا يمكن أن يفرض من خارجها، لا باسم العولمة والانخراط في ما يعرف بالحداثة، التي فيها النموذج الغربي المهيمن، لكن هناك نماذج أخرى، فاليابان وحتى الصين لها حداثتها المنسجمة مع قيمها.

قد نجد حضارات أخرى، تختلف عن الغرب، لكنها حاضرة في المشهد الدولي باختلافاتها وقوتها التاريخية وحتى السياسية، ومعنى ذلك، أن التجديد في القيم، مبعثه الحضارة المعنية، برهاناتها وتراثها الذي عندما تجدده تكون متصالحة مع ذاتها وحافظة لها في الوقت ذاته، وفوق كل ذلك، فهو رهان ثقافي تعمل السياسة من خلال السلطة، على ضبطه للتحكم فيه وفق رؤية بعيدة الأمد، لا استعجال فيها ولا تعسف على التاريخي الاجتماعي والقيمي.

هناك ما هو ثابت في الشخصية باعتباره مشتركا عاما، وهناك الوظيفي الذي يستوعب التحولات ويمضي وفق آلياته الخاصة، وهي تجربة خاضتها كل الحضارات والثقافات في مساراتها المتنوعة والغنية، ولا يمكن لأي قوة عالمية أن تفرض نموذجها مهما كانت قوتها، بل إن هذا الاختيار يخل بالتوازنات العالمية، ويعرّض العالم لمواجهات بين دوله وحضاراته، وهو ما لم يعد مقبولا حاليا.

كونية الاختلاف

التنوّع الثقافي العالمي ضرورة
التنوّع الثقافي العالمي ضرورة

لا معنى للعالم إن تطابقت ثقافاته وغدت حضاراته متطابقة مع بعضها البعض، فالاختلافات ليست صراعات بالضرورة إلا إن أصرت الدول على إخضاع بعضها لبعض، وهذا مسّ بقيم السيادة واحترامها المتبادل، لكن التفاعل جائز، بل مطلوب دون أن يعتبر ذلك فرضا لقيم باسم العولمة، التي ما هي إلا تجسيد لانتصار نموذج، تأهل بقوته الاقتصادية للسيطرة في ظروف تاريخية، وقع فيها تفاوت مفاجئ بين القوى العالمية، فراكمت بعضها ثروات استغلتها لتكون مبادرة للاكتشافات العلمية والتقنية، وذهبت ضحية لذلك شعوب وحضارات أخرى، لا تزال تعاني من تبعات ذلك.

لا شيء كونيا إلا الإقرار باختلاف النماذج الحضارية وحتى القيم الإنسانية، التي لا تمس بالإنساني؛ حياة وحرية قانونية وحقوق محمية ومصانة دون إلغاء الواجبات المفروضة على الكل، قيم وحياة مشتركة وفق مبادئ متفق حولها.

إن مشروع التعدد قناعة ترسخت بحكم اعتبار الاختلاف مصدر صراعات والصراع نفسه ليس مخوفا منه إلا إنْ تأسس على العنف، وكل مقوماته الفكرية كالكره والحقد والتكفير، فكل حرب مسلحة خلفها فكرة محرضة على المواجهة.

إن الرفض إن بقي في حدود الاختلاف، مستحضرا احترام التنوع والإقرار به كحق للأفراد والمجتمعات، وحتى الحضارات، لا يمكنه أن يكون مبررا للمواجهات، دون الاعتراف بالمنافسة ووضع قواعد لها، أخلاقية وقانونية، تحد من وحشيتها أو تحولها لاستغلال وخرق سيادة الغير والتآمر على حقه في الوجود والسلم والمعرفة العلمية والتطور والاستقلال الاقتصادي والسياسي، في اختيار توجهاته وأنماط عيشه وحتى تحالفاته مع غيره، دون أن تتعسكر هذه التحالفات وتصير وسيلة لفرض اختيارات القوى المتحالفة على جيران سياسيين، بل إن التقارب الجغرافي يفرض تعاونا لتأمين القارات بما ينزع عنها كل توجه عدائي يكلف اقتصاديا ومصيريا.

Thumbnail

ويوم السابع والعشرين من أبريل من سنة 2021 وفي حوار مع قناة تلفزيونية سعودية، فاجأ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان العالم العربي والإسلامي، بإيقاف أي عقوبة لا تستند إلى نص واضح، وهو مدخل أساسي للعدالة، مضيفا أن إسلامية السعودية لا تنحصر في مذهب واحد، بل تستحضر في المذهب مصلحة الإنسان، معترفا بأن السعودية كانت هدفا للإرهاب، الذي حاول بما تمثله من سلطة دينية، اتخاذها منطلقا لنشر الفكر العنيف، مضيفا، ضرورة اعتماد أحاديث تتحقق فيها شروط الصحة تواترا، مما يعني عدم القبول بالأحاديث التي تسمى بالآحاد وضعيفة السند وهي كثيرة وغريبة حقيقة، فما هي دلالة هذه الخطوة وأبعادها؟

إنها باختصار انخراط في العصر بوتيرة مدروسة، لا يمكن تجاهلها، فهي مدخل للقطع مع التقاليد المغلقة، التي جعلت الديانة الإسلامية عرضة للكثير من التحاملات والانتقادات، سواء كانت حقوقية أو معرفية أو تاريخية، فالشيوخ بسلطتهم لا يعرفون إقناعا معاصرا، بل يمهدون للعنف بالعنف، ويبدو أن خطابهم مع تطور وسائل التواصل، لم يعد مقنعا، وبذلك غدت القيم الإسلامية كما يتصورونها، متوارثة بسلطة أو مفروضة بقوة التخويف النفسي أو حتى الجسدي، فكان ضروريا تدخل السلطة لوقف تحنيط الديني من خلال الإغلاق المتعمد لباب الاجتهاد، الذي أعاد فتحه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بوضوح تام.

إن هذا الإصلاح في شكله الديني وما سوف يليه، ضرورة حضارية، لها رمزيتها بحكم انطلاقها من المملكة العربية السعودية، وبها سوف تقتضي الكثير من الدول العربية وحتى الإسلامية، وينبغي للفكر التنويري أن يحتفي بذلك، معترفا بجرأة الخطوة وأهميتها للجم الحركات الإسلامية، التي أنهكت المجتمعات العربية والإسلامية، بما تثيره من تحريض ومعارضة لكل إصلاح مدني، غايته تعميق المشترك الحضاري بما يسمح للتسامح أن يسود بين الأديان وحتى الطوائف.

13