الأدب العربي يراهن على العالمية باستمالة ذائقة الغرب

تفرض الشعوب المتفوقة حضاريا، بإنجازاتها العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، نمطها الثقافي على البلدان الأخرى. ومن أمثلة ذلك تحكمها في الذائقة الأدبية. ولنا أن نلاحظ مثلا أن كل كاتب من ثقافة أخرى يقع الاحتفاء به في الغرب يتبوأ مكانة مرموقة في بلده الأصلي.
ترجمت العديد من الكتابات العربية إلى لغات مختلفة، ومما يثير الانتباه أنها انتشرت بعد ترجمتها فعاد القراء العرب لقراءتها بنفس مختلف، واحتفوا بها وكأنها ولدت ولادة جديدة، وبذلك قدمت نماذج لما ينبغي أن يكونه الأدب العربي، ليختار للترجمة، ولأن أوروبا لها قيمها وجماليات خاصة بها من حيث أشكال التعبير وطبيعة القضايا التي يطرحها أدبها، صار الأديب العربي مجربا لما بدا له أنها معايير عالمية قادرة بنفوذها أن تدفعه لتجاوز محليته واختراق آفاق جديدة، بها يتأهل للشهرة، فيعرف كأديب ويتم الإقبال على أعماله، وهو ما يسعى له كل أديب ويحلم به، لكن هذه الحصيلة بحدوثها، لا بد لها من ثمن، فما هو وهل يخدم الأدب العربي راهنا ومستقبلا؟
الجمالية الأدبية
معايير الانتشار مختلفة باختلاف اللغات، لكن المتفوقين حضاريا يفرضون قيمهم فيصير الجميل في فنهم كونيا يحتذى به كما يحتذى بعلومهم واقتصادهم، لكن هل حقا تأثيرات الآداب حاضرة في كل مقروء حتى لو كانت لغته متعلمة من طرف الأغيار؟
لا شك أن لكل لغة سياقها التاريخي وهو ما يساعد على تمثل عوالم الأدب بها رغم تفاوت القدرات اللغوية واللسانية، لكن من الملاحظ أن حبها محدد لشحن القدرة على الإبداع بها، وهو ما حققته الكتابات المغاربية على سبيل المثال، من خلال الكتّاب بالفرنسية الذين أضافوا إليها معجما وتصورات أغنوها بها، وصارت فارضة لهم رغم أنها ليست لغتهم الأم، وقد كتبوا بها رغم أن الناطقين بها استعمروهم وفرضوها عليهم، وربما بسبب ذلك، اختاروا تصوير عالمهم بها ليثبتوا أنهم حضاريا حاضرون بها، ومساهمون في تطويرها أدبيا وفنيا، بحيث اشتغلوا بها ليعبروا عن عواطفهم وتناقضات مجتمعاتهم بها، مما دفع إلى اعتبارهم مبدعين أسسوا لإمكانية نطقها مع التحرر من جمالياتها الخاصة، حكيا وشعرا وحتى نقدا.
يؤسس هؤلاء بازدواجية ألسنهم لقابلية التفاعل مع الغير، دون الذوبان فيه أو رفضه بمنطق التقليد الذي ظن أن اللغة العربية أقدر اللغات على التعبير عن عالم الناطقين بها، متناسين أن الأعاجم بلغة القدامى، من فرس وبيزنطيين ويهود كان لهم فضل على اللغة العربية وعلومها، وبالتفوق فيها فرضوا أنفسهم على الحضارة الإسلامية العربية، فتساووا مع العرب لسانا وحضارة وحضورا، فانقلبت أدبيا الأدوار.
واندفع الكثير من الكتاب العرب، الذين أبدعوا أدبيا، إلى البحث عن ترجمة أعمالهم لتتبوأ مكانة خارج الحدود العربية وتكتسب إشعاعا، فما هي القيم الجمالية التي اشتغلوا بها ويريدون فرضها على الغير، أم أنهم استوعبوا قيما جمالية مغايرة وأرادوا أن يثبتوا قدرتهم على استحضارها اعترافا بكونية ما كتب بلغات أخرى؟
كل لغة تحمل في ذاتها ثقافة الناطقين بها، برؤيتهم للعالم وتصورهم للحياة وعملهم لتحصيل السعادة فيها كما يتصورونها، وبذلك فإن قيم الجمال تختلف وتتباين، وأحيانا تتصارع في ما بينها، فتحاول كل واحدة فرض نفسها لتسود، ولأن الحضارات تتفاوت قوتها، فإن سيادة العلوم فيها صارت معيارا بفعل ما تحصله من قوة، تمكنها من تقديم نفسها كممثلة لأرقى ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية.
ومن المؤكد أن دول الاقتصاد الحر، أنتجت الديمقراطية كخيار سياسي، يعتبر مرجعا لترسيخ الحرية، فقد أثبتت أيضا أن العقلانية في تدبير أمور المجتمع كانت حلا فعالا للكثير من المشكلات، وبهذا المثلث صارت حضارات التفوق نموذجا يحتذى، ولا ينبغي للقيم الجمالية أن تنفلت من هذه الهيمنة، فدول العلم ينبغي أن تكون أيضا هي دول الفن والثقافة والأدب، وبذلك فقد ركزوا على الحرية كأساس للإبداع، من أجل احترام الاختيارات الشخصية، التي بها يتحرر الأديب من كل أبوية وقداسة وسلطة تزعم تملك الحقيقة، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو حتى ثقافية بما تتضمنه من تقاليد وأعراف، فاحتفى الأدب والرسم والتشكيل بالجسد البشري وكل رغباته وميولاته التي تنشد متعته وتحرره من القيود التي طالما عانى من قبضتها، باسم قداسة كنسية أو شمولية أبوية، أو أي وصاية أخرى.
وأضف إلى ذلك، كل أدب يشيد اختلافاته عن المعتاد ليقوض أركانه لأجل بناءات بديلة، في الشكل وحتى المضمون، فنجد إيقاعات الشعر تحاول أن تحاكي موسيقى الهيام الهادئة، وتارة أخرى تبحث عن الصخب والمثير، وهو ما تمضي إليه حتى الرواية نفسها، لتشيد عالما خاليا من البطولة وكل الطموحات البشرية، بخلق أبطال مختلفين عن رجال الأساطير وحتى دعاة العدالة الذين طالما اعتبرتهم النموذجية الغربية مغامرين، يستحقون التقدير وربما الشكر والتذكير بهم، فلم يعد المنتصر وحده البطل، بل حتى المنهزم والمنتحر والفار من مصيره والمتمرد على ما كانه وما يريد أن يصيره، أي عبثية الأفراد الذين لا يعرف عنهم الروائي إلا ما فعلوه، كأنهم غرباء عليه، ولم يشيّد لهم لا نفسية ولا خلفية ثقافية إليها وبها يهتدون إلى الفعل والتفاعل، مما انعكس حتى على اللغة، فغدت مفككة ومكثفة وفيها رموز شبيهة بعالم سحري، فيه غموضه غاية، وربما جمالية أخرى بديلة.
التفاعل الأحادي
◙ لا شك أن لكل لغة سياقها التاريخي وهو ما يساعد على تمثل عوالم الأدب بها رغم تفاوت القدرات اللغوية واللسانية
استحضار المختلف والتماهي معه، مما يدفع إلى تكراره بلغة أخرى، وهو في هذه الحالة استجابة لمتلقّ يعشق المغاير ولا يستطيع قراءته في لغته الأصلية، أو لا يفضل التعامل معه مباشرة، فينوب عنه الكاتب باستحضاره بلغة المتلقي، فيكسر إيقاعات الجمل شعريا، يؤلف المتن الروائي وفق آلية تفكيكية تطلب من القارئ إعادة تجميع المحكي لفهمه والتفاعل معه، والتحرر من الأدبية المباشرة التي يتكاسل فيها القارئ، منتظرا الانتصار لقضية تعنيه وتقض مضجعه، لكأنه بها يتذكر جرحا أو يتحرر منه أو حتى ينتقم بلا وعيه من المتسببين فيه، تاريخا وسياسة وتوجها.
هذه العملية طورت الأسلوب القديم، الذي حاول استحضار هويته في شكلها الديني أو القومي، سواء بنظام التفعيلة القديم شعريا، أو الحكي الشعبي المستحضر للخوارق في كل أشكالها، التي ليست غرائبية بالمعنى الأدبي، بل خوارق تستحضر شخوصا ملهمين شكلوا نماذج في اللاوعي الشعبي.
وقد اتسعت قاعدة قرّاء هذه التجارب، لكنها سرعان ما أفلت بفعل انتشار تصورات ومقاربات النقد الحديث، الذي أعطى للأدب قيما مستقلة عن الغايات المسبقة والأغراض القديمة، وإن لم يلغها في البلاغة والتركيب الذي انحصر في خطابات أخرى، واعظة أو محرضة بحمولاتها السياسية، أكثر مما هو أدبي فيها.
البعد الكوني حقيقة، ليس إلا منتوجا فنيا انبثق من ثقافة خاصة شكلت نموذجا ناجحا، ليس بكتّابه فقط، بل بقرائه الذين بكثرتهم وتفاعلهم فرضوا أدبهم، فترجموه بعد تعلمهم للغات غيرهم وإجادتها، يضاف إلى ذلك وضعهم العام، العلمي والسياسي الذي سمح لهم بتشجيع ما يبدعه أدباؤهم ونقادهم الذين ما يزالون حاضرين في الثقافة الكونية المدعومة بنجاحات تعليمهم وجامعاتهم ومؤسساتهم الثقافية والفنية.