الزمان والمكان بينهما الضباب في معرض عن الجولان السوري

الرسامان شذى الصفدي وأكرم الحلبي يقدمان حالة من التأمل في واقع متغير.
الأربعاء 2022/06/29
نبض غير منتظم (لوحة للفنان أكرم الحلبي)

يمكن للفن التشكيلي أن يمسك بأكثر اللحظات الهاربة ضبابية، خاصة إذا تعلق الأمر بالزمن، وهو ما يحاول الكثير من الفنانين تمثله بتشكيلات لونية وخيالات قادرة على تحويله إلى جغرافيا ساحرة، وهذا تماما ما نجح فيه الفنانان شذى الصفدي وأكرم الحلبي.

المكان والزمان والهوية والذاكرة الجماعية والذاكرة الفردية ومسألة الحدود الفاصلة في قيامها واندثارها على السواء هي من المواضيع التي شغلت الفنانين الشرق أوسطيين المعاصرين بمختلف أساليبهم الفنية وخبرتهم الفنية. وتلك المواضيع بمجرد ذكرها تحضر في البال أسماء بلدان كلبنان وسوريا والعراق، وفلسطين.

ومعرض “غ ت” في صالة “زاوية”، فرع رام الله لا يخرج عن هذا التوجه. فهو معرض يتناول مفاهيم الوقت والذاكرة والحدود بهيئة تشي بتغلغل جغرافيا وطبيعة مناخ الجولان في طريقة تنفيذ الأعمال من جهة وفي الأفكار المطروحة من خلالها من جهة أخرى.

هشاشة الكائن وقوته

افتتحت صالة “زاوية” في السادس عشر من يونيو الجاري معرضا فنيا بعنوان”غَ ت” للفنانين أكرم الحلبي وشذى الصفدي. ضم المعرض عمليين من الفيديو آرت تحت عنوان “همس” و”تحديق 3” واشتمل المعرض على مجموعة من أعمال جديدة للفنانين تدور في فلك الجولان السوري المحتل.

يعيد الثنائي اكتشاف المكان من خلال تقديم مشاهد بصرية وصور تمت معالجتها وتحويرها عبر تقنيات مختلفة

وإذا استخدمنا هنا تعبير “فلك” فهذا ليس من منطلق أسلوب كتابي فقط بقدر انتمائه إلى العالم/ الفلك الذي يقدمه لنا الفنانون على اعتبار أنه مكان واقعي ولكن خيالي، مكان مُرتفع مُشبع بالضباب (ومن هنا عنوان المعرض القادم من التعبير الفلسطيني والسوري الشعبي واللبناني أيضا “غطيطه”، أو غَ ت”) ومكان تسلل إليه الزمان فاتحد معه وساهم في تشكيل “مائيته” التي تراوحت في أعمال الفنانين في الألوان المستخدمة وهي الأزرق الفاتح والأزرق الغامض والأبيض والأسود والبني الحائر في أن يكون لونا للأرض وللتلال أو لونا للعدم والإحساس بالفقد.

الزرقة الغنية بتدرجاتها وبحدة تتجاور طبقاتها في مواضع مختلفة من أعمال شذى الصفدي توحي بأنها ليست لونا مضافا اختارته الفنانة بقدر ما فرض ذاته على الفنانة كمُعبر عن مشاهد طبيعية مرتفعة، ولكن مرتفعة جدا حتى يخال الناظر إليها أنها شارفت السماء وامتزجت بها. كما يتفشى اللونان الأبيض والرمادي الفاتح في لوحاتها فيصبحان أشبه بزبد أكثر منه غيما أو ضبابا ويكاد يسمع له صوت وصدى كما في لوحة حملت عنوان “تدفق”.

 أجواء ما قبل حلول الليل تسيطر على معظم لوحات الفنانة تكشف عن مشاهد طبيعية مُضخمة تبدو فيها الأزهار تنمو في بطء وصمت تحتاجه لكي تبقى على قيد الحياة، كما تحتاج الذاكرة ولاسيما الذاكرة الجماعية إلى من يحميها كي لا تتعرض للتهشيم الممنهج الذي ما من أحد يجهل بأنه يحدث في تلك المنطقة من الأرض. يكفي النظر إلى لوحة “زهرة الجبل” التي ترسم الفنانة شرايينها وجذورها ونسغها وهي ترتفع صعودا في السماء لندرك هشاشة هذا الكائن الزهرة وقوة بنيانه في وقت واحد.

 وهناك لوحة للفنانة تمتد في وسعها ملامح وجه امرأة لم يشف من خلف مساحات لونية تحاكي المشهد الطبيعي المفتوح. كما تحضر عين هي للمرأة غير أنها أيضا ليست لها إذ يتخطى شكلها حدود الوجه وحجمها أكبر من أن يكون  في وجهها. ويحضر إلى جانب هذه العين رأس يمامة تحدق في الناظر إلى اللوحة. تحدق متسائلة وتحدق أيضا متأهبة لأي حركة تجاهها أو تجاه الوجه الذي هو في حقيقته كيان المرأة، لا بل كيان المشهد الطبيعي المتجلي أمامنا بين لا مرئيته ووضوح ملامحه، وبين واقعيته وضبابية حدوده وتفاصيله.

حالة من التأمل

☚ بين الواقعية والضبابية (لوحة للفنانة شذى الصفدي)
☚ بين الواقعية والضبابية (لوحة للفنانة شذى الصفدي)

أما أكرم الحلبي فيبدو في أعماله المعروضة إلى جانب أعمال شذى الصفدي يجسد القسم الأرضي من جغرافيا “الفلك”، أو الجولان المحتل وهو يبدو في حوار وتداخل وانسجام كبير مع ما قدمته الفنانة من أعمال. وتبرز بعض لوحات الصفدي وكأنها انعكاس لما حققه أكرم الحلبي على الأرض. ولعل من أجمل ما استطاع الفنان تحقيقه في أعماله هو قدرته على إبراز شخوص في المشاهد هي جزء منه وهي خارجة عنه وقادمة إليه في آن واحد. تلك الحركة التي نود أن نصفها بـ “البشرية” في أعماله تأخذنا الى الأرق الوجداني والتشرذم الجسدي ما بين الأقارب وحركة الذهاب والإياب في أجواء من شقاء لم تبارح أهل تلك المنطقة المحتلة ولا تلالها المُشرفة على الأسباب والنتائج والآخر الغاصب والآخر الذي ضل طريقه فلم يعد ولا هو فكر في العودة.

لا زال الفنان مُشبعا بافتتانه بهيئة الحروف العربية خارج تجمعها في كلمات وجمل مكتملة. وهو اليوم في لوحاته الجديدة قد كثف من قدرتها التعبيرية جاعلا منها كل حرف أو كل هيئة شبيهة بحرف واحد له إيقاع يحمل تقطعاته في ذاته وليس فقط في مجاورته لحروف أخرى دون الاتحاد معها.

 كما حقق الفنان النبض غير المنتظم  بشكل بصري يمكن للناظر أن يتفاعل معه ليهبط ويرتفع وينحدر في ثنايا التلال ويطوف بضع درجات فوقها كالضباب حين يرخي ظلاله بصريات محددة على هوى تكتلاته وانفراجاته. أعطى الفنان أسماء هي حروف لأكثر من عمل له “ف ر” وهي تظهر فراشة وسعت السماء واحتضنت عالما “بخاريا” غير واضح الملامح وضوءا استطاعت أن تستوعبه في داخلها بدلا من أن يحرقها. وأعطى لوحة أخرى اسم “و، و” وتصور مشهد لغرفة جلوس انفتح عليها الفنان من نافذة الذاكرة أو الخيال الذي يرثي زمنا حاضرا دون أن يعلن موته.

 المعرض يتناول مفاهيم الوقت والذاكرة والحدود بهيئة تشي بتغلغل جغرافيا وطبيعة مناخ الجولان في طريقة تنفيذ الأعمال

البيان الصحفي المرافق للمعرض أسهب في تقديم أعمال الفنانين دون أن ينزع عنها غموضها وجمالية بوحها بأفكار ضبابية ومشاعر مختلطة، مرساة أساسها ليس فقط في أعماق من سكن وغادر أو عاد  إلى الجولان المحتل بكل ما في وجدان معظم أهل الأوطان التي ذكرناها سابقا أي لبنان وفلسطين والعراق.

مما ذكر البيان الصحفي “يعيد الثنائي اكتشاف المكان من خلال تقديم مشاهد بصرية وصور تمت معالجتها وتحويرها وتحويلها باستخدام مجموعة من التقنيات؛ فيتناولان سرديات الذاكرة والأسطورة والممارسات الحياتية اليومية في الجولان السوري المحتل ويقدمان تأملًا في المكان والحياة اليومية، وينظران في تناقضاته والتباس العلاقة بين المألوف وغير المألوف فيه”.

ويضيف البيان الصحفي أن “المعرض هو حالة من التأمل في واقع متغير وفي زمن يمضي ببطء في مكان مألوف تكتنفه التناقضات، بعضها مفروض ويأتي إثر الاستعمار الصهيوني والوضع السياسي السائد. يبقى الـ “غَت” جزءًا هاما من الأعمال التي تكتنفها غشاوة الذاكرة في مساحة تُكْشَفُ فيها تناقضات المكان والتباس العلاقة بين الأساطير والمعتقدات من جهة، والحياة اليومية المعاشة من جهة أخرى”.

14