الروائي المصري حسين عبدالبصير: إحياء الماضي ضرورة إبداعية

يعود الكثير من الروائيين العرب اليوم إلى كتابة روايات تاريخية، تستلهم التاريخ، وتحاول إعادة استنطاقه. لكن هذه العودة محفوفة بالكثير من المنزلقات، لعل أهمها الاشتغال على الفترات نفسها، الإسلامية أو الاستعمارية، والسقوط في تكرار الماضي دون وعي. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائي المصري حسين عبدالبصير حول الرواية التاريخية وملامحها.
يفتح التاريخ نوافذ طلات مُتنوعة ومثيرة لمُحبي السرد لمتابعة ومعايشة وقائع مُدهشة وجذّابة، تصلح خلفيات رئيسية في أعمال جديدة تحاول كسر المعتاد ورسم مسارات أرحب لطرح إبداعات لافتة.
وتُغري الحضارات القديمة أجيالا من الأدباء في العالم العربي يبحثون عن مساحات جديدة للتألق، وتُثير وقائع وحكايات عن الحضارة المصرية، أو العراقية، شجون بعض المبدعين ليمارسوا التجريب باستقراء أزمنة وتوظيفها فنيا في روايات جديدة.
ويُعد الروائي المصري حسين عبدالبصير أحد النماذج اللافتة في هذا الشأن، إذ مارس الإبداع الروائي مستلهما تاريخ الحضارة المصرية، وقدم عدة أعمال في هذا الشأن، أحدثها رواية “إيبو العظيم” التي صدرت قبل أيام.
العودة إلى التاريخ
في لقائه مع “العرب”، يكشف عبدالبصير أن ثيمة استقراء الحضارات القديمة في المحيط العربي والشرقي ضرورية لاستلهام قيم التفوق والنظام والرقي الإنساني الفريد وترسيخ مفاهيم السماحة تجاه عصور ما قبل الإسلام.
ويؤكد عبدالبصير أن رواية “إيبو العظيم” مشروع إبداعي عاش معه لنحو خمسة عشر عاما، وارتسمت أفكارها في عقله فكان يدوّنها ثُم يقوم كل فترة بإعادة تخطيطها عدة مرات، وفي مرحلة ما شعر بالرضا التام عن النص الذي يُقدم خلاصة قيم القدماء في العدالة والتسامح وقبول الآخر من خلال حكيم عظيم اهتم بالعلم واستوعبه وشعر بأهمية غرسه في من حوله، وقرأ كافة النصوص المصرية القديمة التي تم ذكرها في العمل، لذا يشعر البعض بأن لغتها تحاكي اللغة المصرية القديمة.
يشير الروائي في حواره مع “العرب” إلى أن الرواية التاريخية بشكل عام لها مذاقها الخاص الذي يصنع أجواء جميلة ويُدخل القراء إلى عوالم مثيرة لا توفرها الرواية العادية التي تتناول الواقع المعيش، فضلاً عن المعلومات التاريخية التي تقدمها وتسهم في تعريف الجمهور بجوانب قد تكون منسية لديه.
ويضيف أن الروايات التاريخية تتضمن الكثير من القيم الجميلة التي يمكن بعثها مرة أخرى عبر تقديم حكايات تستلهم العديد من قيم الماضي البعيد، مثل الحرية والعدالة والجمال والحق والعلم وعشق العمل وتقديسه والتكافل والتراحم وغيرها من القيم العظيمة، فضلا عن إعادة طرح أسئلة وجودية.
وحسين عبدالبصير هو عالم آثار مصري، تخرج في كلية الآثار جامعة القاهرة عام 1994، وحصل على الماجستير والدكتوراه في الآثار المصرية من جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة، وله عدة روايات تُعنى بالحضارة المصرية القديمة، أبرزها “البحث عن خنوم” التي قرأها البعض على الأديب الراحل نجيب محفوظ قبل وفاته وأبدى إعجابه بها.
وصدرت له أيضا رواية “الأحمر العجوز”، و”بلتيمور”، وكتب: “ملكات الفراعنة”، و”أسرار الفرعون العظيم توت عنخ آمون”، وفيلم “زوسر وإيمحوتب.. ثنائية الملك والعبقرية”. وشغل الرجل عدة مناصب في مجال الآثار وإدارة المتاحف، وعمل في مكتبة الإسكندرية.
يقول الروائي المصري لـ”العرب”، إنه يرى أن إحياء الحضارات القديمة ضرورة إبداعية للاسترشاد بمراحل عظيمة من تاريخ الإنسانية، خاصة أن هناك شغفا حقيقيا حاليا بالماضي، ورغبة في اكتشاف المجهول، والبعد عن الحاضر لتأويل اللحظة الآنية.
ويلفت إلى أن كتب التاريخ الحالية ذات الرؤية التقليدية والنظرة الأكاديمية لا توفر للقارئ المحب للتاريخ المتعة التي توفرها الرواية ذات العوالم السردية المدهشة والجمل الحوارية المثيرة، ويقول في هذا السياق “الغموض الذي يكتنف الحضارات القديمة يسمح بطروحات سردية شديدة العمق”.
إذا كان البعض من جيل الرواد -وعلى رأسهم نجيب محفوظ- قد خاضوا تجربة الكتابة الروائية عن مصر القديمة، لكنهم توقفوا فجأة وعادوا إلى الكتابة عن الواقع المعاصر، فإن عبدالبصير يُفسر ذلك بأن تيار الواقعية الذي كان يفرض نفسه بقوة في العالم العربي خلال الستينات والسبعينات دفع جيل الرواد للعودة مرة أخرى إلى الكتابة عن الحياة المعاصرة.
ويتابع قائلا إن “نجيب محفوظ كتب ثلاث روايات عن مصر القديمة هي: ‘رادوبيس’ و’كفاح طيبة’ و’عبث الأقدار’، ثم انتقل إلى كتابة ‘القاهرة الجديدة’ وباقي روايات مصر المعاصرة، ومع ذلك عاد بعد عدة سنوات إلى التاريخ القديم مرة أخرى في رواية ‘العائش في الحقيقة’، ثم حاكم أدبيا حكام مصر منذ الملك مينا إلى الرئيس الراحل أنور السادات في عمله المهم ‘أمام العرش'”.
كتابة صعبة
يرجع عبدالبصير إحجام الروائيين العرب عن توظيف تراث الحضارات القديمة في أعمالهم الأدبية، إلى الخوف من الإقدام على خوض مثل هذا النوع من الكتابة الصعبة، لوجود تصور عام -غير صحيح- يفيد فحواه بأن مجتمع القراءة يفضل الحكي عن الحياة المعاصرة.
ومن الملاحظ أن الأدباء المعنيين بالتاريخ غالبا ما يعودون إلى التاريخ الإسلامي وتاريخ فترات الاستعمار تحت تصور وجود مُحيط مُهتم بتلك الفترة أوسع وأكبر من دائرة المنشغلين بالحضارات القديمة.
ويوضح أن ذلك ينطوي على قدر من الصحة، لكن تناسي وتجاهل حضارات المنطقة ما قبل الإسلام هو تنكر للعلم لا مبرر له، فالتاريخ عموما يمثل مصدرًا مهمًا للغاية في السرد العربي، وحافل بالكثير من التجارب والعوالم المدهشة التي لا يعرف القراء عنها الكثير.
ويرى أن اختيار الموضوع التاريخي والفترة الزمنية ذو أهمية كبرى في نجاح أيّ تجربة إبداعية تتخذ من التاريخ مسرحًا لأحداثها، وقد يميل الروائي إلى الخيال أو يعتمد على الوقائع التاريخية عند تصديه للكتابة عن فترة ما، وهنا يساعد الفهم والإلمام بمفردات الفترة على إنجاح العمل.
ويذكر عبدالبصير في حواره مع “العرب” أنه يميل عادة في أعماله إلى التخييل وإعادة خلق الفترة، غير أنه لا يعتمد على حادثة تاريخية حدثت بالفعل، أو يكتب عن ملك ما كان موجودًا في مصر القديمة، لكنه يعيد خلق مصر القديمة ويبني عالما لم يكن موجودا فيها، شرط ألا يتعارض هذا العالم المصنوع مع أي من مفردات العالم الذي كان.
ويعتقد أن هناك فرقا كبيرا بين الأدب والتاريخ، ويجب أن يكون الروائي متسلحًا بالإلمام بالعصر الذي يكتب عنه، أمينًا في نقل وقائعه إلينا. واعترف باستفادته الكبيرة من دراسته ومحبته لمصر القديمة وعمله في مجال الآثار، ما أكسبه فهما ووعيا أكبر بالعالم الذي أبحر بالسرد فيه.
ويرى بعض النقاد أن نصوص حسين عبدالبصير السردية تقارب النصوص المصرية القديمة، من حيث الشكل والموضوع دون أن تفقد صلاتها بالواقع. وعلى الرغم من أنها أعمال تتحدث عن التاريخ، تلقي الضوء على الحاضر والواقع ومشكلاته التي استمرت من مصر القديمة حتى الآن، وتغلب فكرة الاهتمام بالعدالة والحرية والإيمان بالعلم على الكثير من أعمال الروائي.
فوجئ الروائي المصري بردود أفعال الجمهور، حيث يتفاعل باهتمام كبير مع الحكايات التاريخية، ويحاول البعض الربط بين الماضي والحاضر من خلال إعادة تأويل النصوص والبحث عن تفاصيل لأمور يتم ذكرها ضمن خلفيات الأعمال الروائية.
الرواية التاريخية بشكل عام لها مذاقها الخاص الذي يصنع أجواء جميلة، ويُدخل القراء إلى عوالم مثيرة
وحول المصادر الأساسية التي يمكن للروائي أن يستقي منها خلفياته وسمات عالمه، يقول “هناك مصادر عديدة ومتنوعة، غير أن الأمر قد يكون صعبا بعض الشيء للكاتب غير المتخصص في تاريخ وحضارة وآثار مصر القديمة، لأن الكتابة عن مصر القديمة صارت علمًا له أصوله، وهناك أعمال لأدباء كبار لكنها تتسم بالتعارض مع حقائق التاريخ أو علم الآثار”.
وفي الكثير من الأحيان يمكن القول إن التاريخ يعيد نفسه، لكن ليس بنفس الصورة التي حدث بها من قبل، والتاريخ في حد ذاته حدث تم في الماضي.
ويؤكد عبدالبصير لـ”العرب” أن “أجمل ما في التاريخ أنه قصة كاملة مكتملة تشكلت بالفعل، ويمكن للروائي مراجعتها واختيار الزاوية التي يريد أن ينظر منها للحدث التاريخي، وهو مطلق الحرية في تأويل الحدث التاريخي وفقًا لرؤيته الفكرية ومدرسته الفنية، خصوصًا عندما تصمت الوثائق أو تنتفي المصادر من أمامه، فهنا يكون هو سيد المشهد، ونسير جميعنا وراء رؤية وإبداع الروائي وقراءته للعالم الآني من خلال مقارنة غير مقصودة مع العالم القديم”.