"الرسكلة".. ثقافة طليعية أم مضمون فارغ

إعادة التدوير نافذة جدلية تطلّ منها الفنون والآداب على الهامش.
الجمعة 2021/04/16
الرسكلة أصبحت اتجاها إبداعيا

شهد الواقع الثقافي والإبداعي العربي في الآونة الأخيرة تركيزا كبيرا على ظاهرة إعادة التدوير (ريسايكلنج) واستعمالاتها المتنوعة في سائر الفنون والآداب، وعلى غرار الأعمال التشكيلية برزت هذه الظاهرة في العديد من الروايات والنصوص الشعرية والمسرحيات وغيرها، فيما يشبه الحركة الفلسفية التي تنتهج الإبداع للتعبير عن إنسان العصر الراهن.

لم تعد ثيمة التدوير التجميعية التركيبية مقتصرة على التيارات والحركات التشكيلية كالكولاج والدادية والسريالية التي تستثمر النفايات والمواد المهملة والقمامة وغيرها، وإنما امتدت إلى المسرح والرواية والقصة والحرف التراثية والتقليدية والكوميكس والكاريكاتير والشعر.

ويهدف مؤيدو هذا الاتجاه إلى إلقاء الضوء على الهامش والهامشيين، وقراءة المسكوت عنه في المشهد الحياتي، وإحياء مفردات وعناصر مجانية ومنسيّة وربما قبيحة، في سياقات جمالية جديدة صادمة، قد تبدو مدهشة ساحرة، أو غرائبية، أو مثيرة أحيانا، دون إنجاز إضافة حقيقية.

ذيوع استثنائي

ليس هناك من ضمان لأن تُمثّل “الرسكلة” اتجاها إبداعيا طليعيا جادا، أو أن تقود في نهاية المطاف إلى تهويمات جوفاء ومضمون فارغ، فالأمر ليس مرهونا فقط بدوافع من يرونها إبداعا جديدا وينحازون إليها في أعمالهم كفلسفة وثيمة وآليات تطبيقية، كما أنه ليس مرتبطا بملاءمة “الرسكلة” لفنون وآداب بعينها دون سواها.

 قد ينجح هذا التمشي في عمل مسرحي محكم أو “كولاج روائي” رصين، بينما يفشل في معرض فني بصري، على الرغم من كونه نشأ في أحضان التشكيل ومدارسه الحداثية وما بعد الحداثية.

المعيار الذي يقاس به نجاح إعادة التدوير هو مدى تواؤم العمل، فنيا كان أو أدبيا، مع هذه الظاهرة

المعيار الموضوعي الذي يقاس به نجاح إعادة التدوير، هو مدى تواؤم العمل، فنيا كان أو أدبيا، مع هذه الظاهرة وتجسداتها داخل العمل، وأن يكون الاشتغال عليها جوهريا لخدمة المضمون والفكرة والفلسفة الغائية للعمل، لا شكلانيا دعائيا بزعم الإبهار أو التجريب دون عنوان أو الانسياق خلف صيحة دون مبرر.

وقد وجدت بالفعل أعمال إبداعية تشكيلية ومسرحية وسردية وشعرية وكاريكايترية وغيرها ضالّتها في التدوير على امتداد المشهد الثقافي العربي خلال الفترة الماضية، ما يفتح الباب واسعا لتقصّي أدبيات النفايات والمهملات وجماليات الهامش وما يمكن تسميته “بلاغيات الرسكلة”.

قبل ظهور تجليات “الرسكلة” في الفنون والآداب المتنوعة، مارس الإنسان إعادة تدوير النفايات منذ القدم، بهدف اقتصادي هو إعادة استخدام المخلفات وحماية الموارد الطبيعية، ونتجت عن هذه الجهود الذكية منتجات ومركبّات مغايرة، لكنها أقل جودة من المفردات والعناصر الأصلية.

ومن منظور غير بعيد له جوانب اقتصادية وبيئية أيضا، ومن دون التفريط في جودة المنتج الثاني الذي يجري تخليقه، بدأ ظهور الأعمال التشكيلية المعاصرة من لوحات ومنحوتات قائمة على النفايات والمخلفات (العظام، الخردة، العلب الفارغة، أكياس البلاستيك، أوراق الشجر، الكراكيب المنزلية، إلخ)، بهدف جمالي فني في الأساس، ووازع خفيّ هو تنقية النظام البيئي من حمولته الزائدة.

مع تطورات الفنون التشكيلية وتعقيداتها، تبلورت مذاهب خاصة بـ”الرسكلة”، على رأسها الدادية، وظهرت نزعات بالغت كثيرا، حدّ التطرف، في تحويل الأدوات المستعملة إلى تكوينات فنية تتسع للقبح وليس فقط للقمامة والنفايات.

وشهدت المعارض وجوه البشاعة والتلوث والضجيج، مثل مناديل التواليت، وزجاجات الخمور المكسورة والفاسدة، وأعقاب السجائر، والكراتين الممزقة، والآلات الصناعية، وما إلى ذلك، مما اعتبره البعض تدميرا لروح الفن، وتعكيرا لصفائه، فيما دافع آخرون عن جماليات المركّبات الجديدة، بعيدا عن أصولها وجذورها التكوينية.

عرفت بعض الدول العربية ذيوعا استثنائيا لظاهرة “الرسكلة الإبداعية” في الأشهر الماضية، ليس فقط في الفنون التشكيلية، وإنما في سائر الفنون والآداب التي انتقلت إليها هذه الفلسفة من الحقل التشكيلي. واقترن حجم النجاح الذي حققته هذه الأعمال بمقدار الوعي في التعاطي مع إعادة التدوير، والنضج في توظيف هذه التقنية ذهنيا وجماليا.

وتعددت المعارض الفنية بالقاهرة التي اعتمدت كليا على إعادة التدوير، وأبرزها معرض “أشيائي المفضلة” في غاليري مشربية، لكل من كاملة بسيوني ورانيا عاطف وأفروديت السيسي ومليكة حسن، اللاتي قمن بمغامرة فنية أعدن خلالها اكتشاف المواد المهملة والنفايات.

Thumbnail

وقدّمن تشكيلات مبتكرة من بقايا الزجاج والخشب والمعادن والورق والأقمشة البالية، تشع حيوية وجمالا، وتترجم فلسفة مشروع فني مشترك بعنوان “من المهمل إلى الثمين”، وهو برنامج إرشادي لإعادة التدوير، حيث يجري التفاعل مع بقايا الأثاث والأشجار والخامات والمواد البالية من الأقمشة والكرتون والورق والبلاستيك والزجاج والخشب والمعادن.

منها كذلك معرض الفنان فتحي عفيفي “دنيا” في غاليري “خان المغربي”، الذي استلهم دهاليز المصانع الحربية، وتروس الآلات، وعصارات الماكينات والزيوت والأدخنة، لإعادة تشكيل عالم ظلامي ضيّق له طبيعة خاصة، يعكس حياة عملية خشنة خالية من البريق والنبض الآدمي.

وانطلقت الفنانة سماء يحيى من العناصر القديمة في أعمال معرضيها “صندوق الدنيا” و”بلد المحبوب”، لتعيد إحياء مفردات التراث وعناصره في صيغ وتكوينات جديدة معاصرة، من خلال النحت بالأدوات المصنعة، والمواد سابقة التجهيز، وهو فن يختلف بعض الشيء عن استعمال المخلفات، إذ يتفق في زوال الغرض النفعي وتحويله إلى شكل جمالي صرف، لكن تبقى لكل أداة مستخدمة شخصيتها وروحها في العمل الفني.

سمات "الرسكلة" برزت في السرد من خلال تكوينات ناضجة، كما في أعمال “الكولاج الروائي” لصنع الله إبراهيم

ولم يخل فن أو شكل أدبي من تمثلات “الرسكلة”، منها العرض المسرحي الإماراتي “أشياء لا تصلح للاستهلاك الآدمي”، الذي شهده مهرجان “أيام الشارقة المسرحية” في دورته الأخيرة، من تأليف علي جمال وإخراج وسينوغرافيا حسن رجب، وبني على إعادة استثمار النفايات وأكياس القمامة لتحفيز البشر على التطهّر جماليا وإنسانيا، وصياغة واقع بإعادة إنتاج الإنسان نفسه بمواصفات أفضل وتخلصه من القمامة الأخلاقية، وجاءت “الرسكلة” خيطا فنيا طبيعيا جرى الاشتغال عليه بسلاسة.

وفي الإطار ذاته من التفاعل الموضوعي الخصب مع “إعادة التدوير”، جاءت مسرحية “ريسايكل” التي عُرضت مؤخرا بالقاهرة، من إعداد وإخراج محمد الصغير، وتمثّلت “الرسكلة” في قالب كوميدي لتفجير قضايا مصيرية مثل القهر والفقر والبطالة والتعليم والعنوسة والتحرش، وكيف يصير الإنسان والعدم سواء عندما يكون فاقد الصلاحية، ويتطلب الأمر “إعادة تدويره” بعدما تحوّل إلى نفاية مهملة ليعود إنسانا من جديد.

وجاءت الدورة الأخيرة من مهرجان الحرف التراثية والفنون التقليدية بالقاهرة لتفسح المجال لإعادة التدوير على نحو موسّع، على مستوى تدوير الأفكار والصناعات الموروثة، تحت شعار السعي إلى استعادة الهوية والارتقاء بالفنانين التلقائيين والشعبيين وتطوير منتجاتهم وربطها بحركة الحياة، منها أشغال الصدف والنحاس والجلود والفضة والحلي والخشب والأواني الزجاجية والسيرما والملابس والكليم والتطريز والسجّاد، التي تعكس أدبيات القاهرة الإسلامية، مع عدم إغفال الفنون الفرعونية التي جرى تمثيلها بالرسم “الحيّ” على أوراق البردي.

ومن خلال مهرجان الحرف التراثية والفنون التقليدية بالقاهرة فالملاحظ في مثل هذه الفعالية، وما على شاكلتها، تحوّل إعادة التدوير إلى مفهوم مقولب، بمعنى أن الاشتغال على الأفكار القديمة قد مضى في مسلك الاستنساخ الضيق، لا في فضاء إعادة إنتاج مركّبات وتكوينات جديدة عصرية عبر إحياء مفردات ماضوية أو عناصر بسيطة ومجانية ومهملة.

وبرزت سمات “الرسكلة” في فضاءات السرد من خلال تكوينات ناضجة، كما في أعمال “الكولاج الروائي” لدى صنع الله إبراهيم، وأحدثها روايته “1970”، التي يتعاطى فيها مع قصاصات الصحف القديمة البالية ونشرات الأخبار المنسيّة، ليعيد نشرها وإذاعتها من جديد، في سياق العصر الراهن، لتحقيق الإسقاط التاريخي، والمفارقة بين الحاضر والماضي، خصوصا على الصعيد السياسي.

ولا يخلو الكاريكاتير والكوميكس والغرافيتي من ظاهرة إعادة التدوير، لاسيما تلك الأعمال الكثيرة، المصرية والعربية، التي تُساوي بين الإنسان العصري وبين النفاية المهملة، بعدما تحوّل البشر إلى آلات مستهلكة، وباتوا كتلا حديدية لا قيمة لها، ولا أمل في إصلاحها سوى بإعادة تدويرها. وقد أقيم أكثر من معرض جماعي عربي بمصر في هذا الإطار، للتعبير عن الإنسان الغائب في عصر الاستلاب والمادية والرقمية، وكيف أن الإنسان بحاجة إلى إعادة تدوير بعد توحش الآلة.

علامات دالة

Thumbnail

من مقوّمات آلية “الرسكلة” الناجحة في سائر الفنون والآداب، إحداثها للمفارقة والصدمة، حيث يقوم المبدع بتجميع الأشياء الطبيعية واليومية في سياق تجريبي آخر، قد يكون مضادا للأصل.

ويرى الناقد محمد سمير عبدالسلام في تصريح لـ”العرب” أن الاتجاهات الجديدة في شعر العامية المصرية على سبيل المثال قد أكثرت من استخدام العلامات التي تشير إلى الحياة اليومية، أو العناصر الطبيعية، أو المهن الهامشية بصورة تحمل نوعا من البلاغة الجديدة في استخدام اللغة، وتوليد دلالات متنوعة من وجود هذه العلامات في السياق الأدبي المتضمن في القصيدة.

ويوضح أن الشاعر الراحل مجدي الجابري قد أعاد إنتاج علامة “الحذاء”، أو “رباط الحذاء”، في قصيدة له بعنوان “فرح أخويا”، فالذات المتكلمة في القصيدة تضع الحذاء في بؤرة الاهتمام، فهو مفتتح لعلاقتها بالأخ، وبالمناسبة، وبالبهجة أو الحزن أو المخاوف الكامنة في اللاوعي، فالشاعر بعد أن ربط الحذاء بالترفع والبهجة، قد منح رباط الحذاء دلالة التهديد في أحلامه، وأخيلته.

وأعاد الشاعر المصري مسعود شومان إنتاج بعض العلامات اليومية الهامشية والطبيعية، في سياق بحث الذات المتكلمة عن الأصالة عبر علاقتها بالأنثى المتخيلة، أو بالمدينة في قصيدته “حاجات صغيرة”، فالذات تشير إلى علامات، مثل الوردة، والحواديت، وعلب الورنيش، والخرابة القديمة، وعربات الكارو، والشوكة، والحذاء، في سياق البحث المستمر عن أصالة الذات، وتشكلها المجازي/ الإنساني في آن.

أما الشاعر جمال فتحي فيستعير في ديوانه “لابس مزيكا” علامة عمود الكهرباء، لتعيد تمثيل الذات في رحلة بحثها عن تفسير لكينونتها، أو علاقتها الوجودية مع الآخر، فهو يناقش المدلول الفلسفي العميق من خلال العلامات الجاهزة المتكررة، إذ يمكننا أن نرى الذات/ العمود بين الشخوص والتحول.

ويؤكد محمد سمير عبدالسلام لـ”العرب” أن التكوين الفني الجديد للمادة التي قد تكون مهملة أو هامشية هو الذي يحدث نوعا من الدهشة أو البهجة لدى المتلقي، أو يدفعه إلى التفكير النقدي في العلاقة بين الموضوع التجريبي، وأصول المادة المستخدمة، ودرجة التحول فيها في وعيه ولا وعيه، وهنا سر نجاح “الرسكلة الإبداعية” في الشعر وفي سائر الآداب والفنون، وعلى رأسها الفنون التشكيلية.

15