الربيع العربي الذي بدأ عام 2004

ليس أفضل من الأيديولوجيا سلاحا، عندما يتعلق الأمر بستار يحتمي خلفه الطغاة، وليس من ستار أكثر شرعية من توظيف الدين لهذا الغرض.
الاثنين 2019/12/30
الشعوب تكشف زيف الأيديولوجيا

إن أردنا أن ننصف عام 2019 بكلمة واحدة، ما هي الكلمة التي يمكن اختيارها، هل هو عام الكوارث، أم الحروب، أم الأزمات، أم الاحتجاجات، أم هو عام الحلول؟

أي من هذه الكلمات تصلح لوصف عام يستعد العالم لتوديعه بعد 36 ساعة من الآن. وهو عام رغم ما حمله من مآس، سيبقى عالقا في الذاكرة، ليس لأي سبب من الأسباب المذكورة سابقا، ولكن لسبب آخر، لأنه عام التغيير. العام الذي اكتشفت فيه الشعوب أنها عاشت مخدوعة على مدى عقود طويلة، كانت خلالها أسيرة مفاهيم ثبت الآن زيفها.

إن أردنا أن نختصر الصورة ونضع عنوانا لما يجري اليوم في العالم، لن يكون هناك أفضل من العام الذي كشفت فيه الشعوب زيف الأيديولوجيا.

شعوب العالم اليوم تنتفض ضد العقائد والشعارات الكبيرة، بما فيها الشعارات النيوليبرالية والقومية والدينية. حتى اليسار الذي قاد طويلا المعارضة، فقد هو الآخر بريقه.

شهد العام 2019 تنامي الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وطالت تلك الحرب دولا أخرى بما فيها دول أوروبية. وأعاد صراع النفوذ ذكريات الحرب الباردة. ولن يكون اليوم حسم المعركة سهلا، فأصحاب الشعارات الكبيرة لن يلقوا السلاح طوعا، سيكون هناك بحر من الدماء، وتتساقط أعداد كبيرة من الضحايا، وسيعلن عن إفلاس دول عديدة.

في العام 2011 استبشر العالم، بثورة انطلقت من تونس، شكلت بداية مرحلة سقوط الدكتاتوريات، إلا أنها سرعان ما شهدت انتكاسة. والثورة التي هلل لها الجميع، قادت إلى ثورة مضادة، أبرز ملامحها انقلاب الشارع على رجال السياسة وعلى الأحزاب الرسمية.

في كل مكان لا كلمة تسمع، عندما يتعلق الأمر بالحكم، سوى كلمة تكنوقراط. هذا ما يطالب به التونسيون والجزائريون واللبنانيون والعراقيون. ويتمناه الشارع الليبي والسوري واليمني. وتقف في وجهه أنظمة نصبت من نفسها حماة للدكتاتوريات تحت ستار الدين.

ليس أفضل من الأيديولوجيا سلاحا، عندما يتعلق الأمر بستار يحتمي خلفه الطغاة، وليس من ستار أكثر شرعية من توظيف الدين لهذا الغرض.

نوعان من الدول وفرت خدماتها للأنظمة الدكتاتورية. النوع الأول، تلك التي تخلت عن الأيديولوجيا، ودخلت في منافسة مع الولايات المتحدة ودول أوروبية، للسيطرة على مناطق نفوذ تؤمن من خلالها مصالحها الاقتصادية والأمنية، وعلى رأس تلك الدول تقف الصين وروسيا.

والنوع الثاني، تقوده إيران وتركيا، وكل منهما اختارت تقديم خدماتها تحت ستار الدين، الذي يخفي مطامع توسعية.

لهذا كله فإن عام 2019 ليس كسائر الأعوام، وإن كان العالم سيتذكره دائما، فإن تركيا وإيران ستتذكرانه بشكل خاص. ستذكران عاما فقدت فيه البضاعة التي يروجانها قيمتها. كيف حدث ذلك ولماذا؟

التغيرات لم تبدأ من البلد الذي انطلق منه الربيع العربي، ولم تبدأ أيضا من فرنسا أو من إيطاليا، التغيرات بدأت في الولايات المتحدة، عندما قام مارك زوكربيرغ، بتأسيس فيسبوك بالاشتراك مع كل من داستن موسكوفيتز وكريس هيوز، اللذين تخصصا في دراسة علوم الحاسب، وكانا رفيقي زوكربيرغ في السكن الجامعي، عندما كان طالبا في جامعة هارفارد.

كانت عضوية الموقع مقتصرة في بداية الأمر على طلبة الجامعة، ولكنها امتدت بعد ذلك لتشمل الكليات الأخرى، في مدينة بوسطن وجامعة آيفي ليج وجامعة ستانفورد، ثم اتسعت دائرة الموقع لتشمل أي طالب جامعي ثم طلبة المدارس الثانوية، وأخيرا أي شخص يبلغ من العمر 13 عاما فأكثر. ويضم الموقع حاليا أكثر من مليار مستخدم على مستوى العالم.

انطلق موقع فيسبوك من موقع “فيس ماتش” التابع لجامعة هارفارد، وهو موقع يعتمد على نشر صور لمجموعة من الأشخاص، ثم يقوم رواد الموقع باختيار الشخص الأكثر جاذبية. وقد قام زوكربيرغ بابتكار الموقع يوم 28 أكتوبر عام 2003، عندما كان يرتاد جامعة هارفارد كطالب في السنة الثانية. ومن أجل أن يتمكن من تأسيس الموقع، لجأ إلى اختراق مناطق محمية في شبكة الكمبيوتر الخاصة بالجامعة، وقام بنسخ صور خاصة بالطلبة في السكن الجامعي.

واعتبر زوكربيرغ لاحقا أن مبادرة الجامعة باتخاذ إجراء مضاد يرجع لأسباب قانونية، مردها أن المسؤولين لم يدركوا القيمة الحقيقية لما قام به من انتهاك قد يحدث لكليات أخرى. ويستطرد زوكربيرغ “ولكنّ هناك أمرا واحدا مؤكدا، وهو أنني ارتكبت حماقة عندما أقدمت على إنشاء ذلك الموقع. على كل حال إن أي شخص آخر كان سيقوم بذلك في نهاية الأمر”.

تم إغلاق الموقع بعد بضعة أيام من قبل إدارة جامعة هارفارد. واتهم زوكربيرغ بخرق قانون الحماية وانتهاك حقوق التأليف والنشر، وكذلك انتهاك خصوصية الأفراد، ما يعرضه للطرد من الجامعة؛ ولكن تم إسقاط جميع التهم الموجهة إليه في نهاية الأمر.

وفي النصف الثاني من العام الدراسي نفسه، قام زوكربيرغ بتأسيس موقع فيسبوك، تحديدا في الرابع من شهر يناير عام 2004، ليصبح القوة التي بدلت العالم، وأعادت كتابة التاريخ. وهي القوة التي ساعدت، إضافة لمواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، على انطلاق الربيع. ليس فقط في تونس ولكن في دول العالم.

9