الرئيس المصري يقسو على الإعلام والفن: الهزل لا يبني أُمّة

القاهرة - ألقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بحجر كبير في مياه المحتوى الإعلامي والدرامي، معلنا تحفظه على بعض ما يتم تقديمه ويؤثر بشكل سلبي في الوعي الجماهيري والتماسك المجتمعي، مقابل تجاهل المحتوى الجاد الرصين الذي يناقش قضايا حيوية ويقدم رسائل إيجابية، وهو ما عبّر بشكل واضح عن رفض رسمي لمسار الإعلام والفن في مصر.
وخلال حفل الإفطار الذي نظمته القوات المسلحة الاثنين قال السيسي "إياكم أن ترعوا الغم فقط، أو الهزل فقط، لأن هذا الكلام لا يبني أمّة،" مشددا على ضرورة وجود إعلام جاد قوي ومؤثر في الوعي المجتمعي لتنشأ الأجيال على القيم والأخلاق.
واستند السيسي في هجومه إلى الجماهيرية التي حققها برنامج "قطايف" الذي يقدمه الفنان الشاب سامح حسين على مواقع التواصل الاجتماعي خلال شهر رمضان، مقارنا إياه بما يتم تقديمه في بعض القنوات، بعد أن حقق البرنامج جماهيرية كبيرة خلال فترة وجيزة، لأن لديه رسالة توعوية بسيطة أصبح الجمهور شغوفا بها.
السيسي يُدرك أن المواجهة المستمرة مع التطرف والإرهاب الفكري لا تحتاج إلى يقظة أمنية بقدر ما هي مواجهة بالكلمة والوعي
وترى دوائر سياسية أن الانتقادات التي وجهها السيسي للإعلام تتضمن اتهامات لدوائر حكومية مسؤولة عن إدارة المنظومة الإعلامية، أخفقت في ضبط المشهد ووضع خطة تعيد إلى المنابر المختلفة اعتبارها رغم وجود إمكانيات مادية ضخمة وكفاءات في تخصصات مختلفة، لم يتم توظيفها بشكل صحيح.
وقد أحرجت رسائل السيسي الكثير من وسائل الإعلام المملوكة لجهات حكومية، من صحف وقنوات ومواقع ومنصات رقمية، خاصة عندما نجح فنان شاب بأقل الإمكانيات في سحب البساط من تحت أقدامها ويحقق مشاهدات مرتفعة على مواقع التواصل، لأنه كان جادا ولديه رسالة قيّمة لم يجدها الجمهور في المنابر الحكومية.
وسواء أكانت المقارنة التي عقدت بين برنامج على شبكات التواصل ووسائل الإعلام التقليدية متعمدة أم مجرد تشبيه لكيفية تقديم محتوى إعلامي رصين، فإن تحفظ السيسي وضع الإعلام المصري في مأزق، وقاد إلى إحراج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي تملك أغلب القنوات والصحف والمواقع الإخبارية ومعها جيش من الإعلاميين.
واعتادت الحكومة في مصر الرهان على الإعلام التقليدي في مواجهة خصوم يتعمدون إنهاكها برسائل تقوم على إحباط الشارع ودفعه إلى التركيز على القضايا الهامشية والحوادث الشاذة، بعيدا عن أن يكون لدى الشارع المزيد من الوعي والفهم والإدراك للتحديات التي تواجه الدولة.
ويُدرك الرئيس السيسي أن المواجهة المستمرة مع التطرف والإرهاب الفكري لا تحتاج إلى يقظة أمنية بقدر ما يتطلب الأمر أن تكون المواجهة بالكلمة والوعي، لكن الإعلام أخفق إلى حد كبير في ذلك، وبدا كمن لا يستطيع كسب المعركة لصالحه.
وخصصت القنوات المصرية ميزانيات ضخمة خلال موسم دراما رمضان، لكن الكثير منها قوبل بتحفظات على القضايا التي تناقشها، لأنها تركز على موضوعات تتعلق بالخيانة والثأر والبلطجة والخروج على القانون وتجارة المخدرات، والبرامج الدينية والاجتماعية أصبحت شاردة ولا تتطرق إلى شواغل الناس.
وإزاء هذا المشهد المتكرر تقف الحكومة شبه عاجزة عن إصلاح المنظومة أمام اقتناع بعض المسؤولين بأن دور الإعلام هو الوقوف خلف السلطة ظالمة أو مظلومة، وحشد الرأي العام لدعمها بأي وسيلة، بزعم أن ذلك هو الوعي الذي يريده السيسي.
وتحتل قضية الوعي مساحة كبيرة في خطابات المصري دون أن يتلقف الإعلام تلك الرسالة ويتفاعل معها بإيجابية، وتدرك الجهات المسؤولة عن إدارة المنظومة أن انتقادات السيسي هي انعكاس للخوف من الأمية الفكرية والسياسية والثقافية على الأمن والاستقرار.
أكد رئيس جمعية حماية المشاهدين وعميد كلية الإعلام بجامعة المدينة في القاهرة حسن علي أن بعض الجهات الشريكة في إدارة الإعلام هي سبب ما يحدث، مع ذلك لديها اعتقاد "خاطئ" في أن حرية الإعلام أدت إلى ثورة 25 يناير 2011 عندما حصل الإعلام على مساحة أكثر مما ينبغي في نظرها.
استمرار هيمنة الصوت الواحد خلف الحكومة هو أكثر ما يشوه الوعي المجتمعي، لأنه يقضي على التعددية والرأي الآخر والتنوع في التوجهات
وأضاف في تصريح لـ"العرب" أن شكوى السيسي من الإعلام لن تتوقف طالما يديره غير متخصصين، والرئيس يبحث عن إعلام متوازن ومنضبط، وتلك مهمة ليست مستحيلة، شريطة أن يكون القرار بأيدي شخصيات متخصصة، معقبا "بإمكاني عمل إعلام محترم بمساحة ضيقة من الحرية، المهم الخبرة، لأن أزمة الإعلام في الإدارة وليست (في) التمويل أو المحتوى."
ويعتقد مراقبون أن دوائر حكومية معينة تتحمل قدرا من المسؤولية، لأنها لا تمنح الإعلام مساحة كافية للتحرك بعيدا عن القيود المكبلة له، ويصعب على أي وسيلة أن تغرد خارج السرب أو تضع رؤية مستقلة دون موافقة جهات شريكة في إدارة المشهد.
ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن ما ينتقده السيسي يسهل إصلاحه إذا توافرت حريات إعلامية تتيح للمؤسسات المختلفةِ المشاركةَ في صناعة الوعي بعيدا عن التدخلات أو التوغل في المحتوى المقدم للجمهور، وهذا يتطلب إصلاحات سياسية توفر مساحة للنقد وحرية الكلمة.
وهناك فريق يعارض تلك الرؤية من منطلق أن تقديم محتوى جاد ورصين ومهني لا يحتاج إلى رفع سقف الحريات، ويتطلب فقط كفاءات بعضها جرى تغييبه عن المشهد لصالح أهل الثقة، علاوة على إتاحة حرية الحصول على المعلومات حتى لا تظل بعض وسائل الإعلام ضحية رؤى ضيقة تفرضها جهات مسؤولة عنها.
وثمة اتفاق بين خبراء الإعلام في مصر على أن استمرار هيمنة الصوت الواحد خلف الحكومة هو أكثر ما يشوه الوعي المجتمعي، لأنه يقضي على التعددية والرأي الآخر والتنوع في التوجهات، ما جعل المنابر الإعلامية نسخة مكررة في طريقة تناولها للقضايا المطروحة، والعجز عن تلبية متطلبات الجمهور والسلطة.
وبقطع النظر عن تبعات الغضب الرئاسي من الإعلام، المهم أن تكون هناك إرادة حكومية لتحرير الإعلام من الرقابة الاستباقية على المحتوى لتصبح رقابة لاحقة لما يقدم باستقلال، وفي غياب ذلك سوف يستمر الإعلام في مخاطبة نفسه وفقدان التأثير، لتواصل السلطة خسارة وسيط يقرّبها من الشارع.