الديك على خط النار في لوحات اللبناني محمد عبدالله

"منحنيات وديوك" تختبر مظاهر تشكل الجسد البشري.
الجمعة 2023/02/24
جسد يعبر عن نفسه بالحركة

بألوان هادئة لا تثير العواطف أراد الفنان اللبناني محمد عبدالله أن يختبر في معرضه الجديد مظاهر تشكل الجسد البشري وحركته باحتمالات متعددة نابعة من خياله الخصب، لكنها احتمالات جمعت بين جسد المرأة والديك باعتباره رمزا للذكورة ويحضر لتأمل أشكال الجسد الأنثوي.

تفتتح صالة "كاف" الفنية في بيروت في الرابع والعشرين من فبراير معرضا للفنان التشكيلي اللبناني محمد عبدالله يحمل عنوان "منحنيات وديوك" وهو من أحد معارض الفنان المأخوذ بالاختزال وصقل المعالم المرسومة وجعلها ناصعة أكثر مما هي على حقيقتها الواقعية.

ولا يخرج معرض الفنان التشكيلي اللبناني محمد عبدالله عن سياق معارضه الأخيرة لاسيما من ناحية هوسه باختصار الخطوط والأشكال دون إضعاف قوة التعبير عن الموضوع المطروح مهما كانت بساطته.

مواكب مسيرته الفنية منذ التسعينات من القرن الماضي إلى اليوم سيسهل عليه إدراج أعماله ضمن مرحلتين: الأولى التي انتقلت في أغلبها من مراقبة العالم المحيط لاسيما شوارع المدينة بأناسها المنهمكين في أشغالهم أو المنسجمين مع ذواتهم في أوقات الراحة وأيضا بأشجارها وأبنيتها وأرصفتها. حضرت في تلك الأعمال بيروت أولا ثم القاهرة. وقد استطاع الفنان أن يصور لنا أجواء هاتين المدينتين المختلفتين على أنهما متشابهتان.

الديك حاضر في كل لوحات المعرض
الديك حاضر في كل لوحات المعرض

في معظم هذه اللوحات بدت بيروت والقاهرة مدينتين ناصعتين تميزتا بألوان غنية متقاربة وبمناخ طبيعي موحّد وبهدوء انتشر حتى في أكثر اللوحات اكتنازا لحركة المارة أو انشغالهم في أعمالهم اليومية. وقد اعتمد الفنان في تشكيل معظم هذه اللوحات على صور فوتوغرافية التقطها هو بكاميرته.

فقبل الانتقال إلى التحقيق الفعلي للوحات، عمد إلى تبنّي تركيب خياليّ للوحة مبنيّ على سلسلة من الصور الفوتوغرافية، التي جمع بعضها والتقط بعضها الآخر، ثم قام بتوليفها ذهنيا، قبل أن ينقل معالم هذا التوليف باستعمال مادة الأكريليك على قماش اللوحة.

أما المجموعة الثانية من الأعمال والتي تنتمي إليها وبامتياز لوحاته التي يعرضها في صالة "كاف" الفنية فهي التي تحررت مما كانت تقدمه له عدسة الكاميرا الخاصة به من مشاهد واقعية كثرت فيها الألوان والظلال والتفاصيل. برز في لوحات المجموعة الثانية الاختزال الشديد والخبرة والتمرس في توظيف الخط لأجل تطويع أشكال الأجساد بقدر هائل من الحرية والليونة في حركاتها.

واللافت أن الفنان قادر على "إقناع" الناظر إليها أن طول الأطراف وإن كانت غير صحيحة كلاسيكيا بعض الأحيان هي في منتهى الانسجام مع بعضها البعض، كذلك نحول الأحجام واكتنازها في مواضع دون أخرى في الأجساد النسائية.

وحول هذا الانشغال الكبير برسم الأشكال بعد إخراجها من واقعيتها المبشرة قال لنا الفنان عبدالله إن "فكرة المعرض هي بشكل خاص اختبار الاحتمالات التي من الممكن للجسد البشري أن يظهر فيها". وهذا أقل ما يقال من فنان واقع تحت سلطة ذهنه ورغبته في ابتكار وجهات رؤية مختلفة حتى حدود إنهاك الاحتمالات.

انهماك الفنان في تصور مدى قابلية أن تأخذ الأشكال هيئات مختلفة، قد بدأ يسكنه بشدة منذ أكثر من 6 سنوات وقد أوصله جليا في معرضه الحالي من خلال براعة فنية عالية جدا استطاع فيها أن يظهر اكتمال شكل محدد بتوظيف خط واحد، ومن ناحية أخرى أدخله إلى قلب نمط آخر من الفن لم يكن حاضرا بوضوح في أعماله السابقة وهو النمط "الغرافيكي"، إذا صحّ التعبير والمنهمك بالشكل أكثر من انهماكه بالمضمون حدّ أن أصبح المضمون في لوحاته هو الشكل والأسلوب في تحقيق المشاهد.

◙ أعمال الفنان الجديدة تأخذنا إلى فن "الدكوباج" ولكن ليس بالمعنى الحرفي
◙ أعمال الفنان الجديدة تأخذنا إلى فن "الدكوباج" ولكن ليس بالمعنى الحرفي 

ثمة أمر آخر تميّزت به أعمال الفنان الجديدة. فهو أخذنا إلى فن "الدكوباج" ولكن ليس بالمعنى الحرفي: قص الأوراق الجاهزة بغية لصقها إلى جانب بعضها البعض وتأليف هيئة معينة بجمعها. بل المقصود أن الفنان رسم أحجاما مفككة تتحاذى على قماش اللوحة ويجمع بينها خط رفيع أو فراغ طفيف جدا يوحي بأنها ملصقة إلى جانب بعضها البعض.

إنه ضرب من التشكيل الفني الذي يميل إلى "الغرافيكية" دون أن يكونها. ويشير هذا الأسلوب الذي اعتمده الفنان اللبناني إلى ميله الشديد لتفكيك المشاهد التي يراها وإعادة تركيبها لتكون حقيقية، ولكن بتفلسف واجتهاد شكلاني يكشف عن حب الفنان للّعب بالمعطيات البصرية وقولبتها لتكون واقعا تشكيليا آخر لا يقل حقيقية عن المشاهد العادية والمعروفة للكل.

تشكيل فني يميل إلى "الغرافيكية" دون أن يكونها
تشكيل فني يميل إلى "الغرافيكية" دون أن يكونها

ويضبط الفنان محمد عبدالله إيقاع الواقع الجديد الذي أنشأه في معرضه هذا بمفردة مكررة وإن اختلفت في أماكن وضعها وألوانها. أما هذه المفردة فهي الديك. وهو كما معروف رمز للذكورية خاصة إذا ظهر بحضور المرأة في اللوحات. وينشغل الفنان في وضع هذا الديك على خط نار الواقع ليكون سيدا في أغلب الأحيان وتابعا للمرأة المرسومة في أحيان أخرى.

وتنجذب عين المُشاهد إليه وهو يبتسم ليتابع أحواله وحكايا صلته مع المرأة التي تجاوره حينا فتحتضنه وحينا آخر تقع تحت سلطته وتحبه في الآن ذاته بكل الأحوال. هدوء ووصال بين الشكل والمضمون حد أن يتحد الاثنان معا.

والغريب في معرض الفنان أن الدفء يغيب في لوحاته. وهو في غيابه دفء آخر لا توهج فيه وينسجم تماما مع كل العناصر في اللوحة. وبالعودة إلى معارضه السابقة فلطالما كانت أعمال محمد عبدالله تنقصها العاطفة فالفنان يبدو دوما يرسم على مسافة بعد عاطفي من مواضيعه وعناصرها البصرية لأن الذهن سيّد عنده.

غير أن هذه البرودة الدافئة، إذا صحّ التعبير، هي في حقيقتها اتزان تام يقلّ التوتر فيه ممّا يوحي ظاهريا بانخفاض منسوب العاطفة كحالة مسببة للاضطراب إيجابيا كان أم سلبيا. يُذكر أن الفنان التشكيلي محمد عبدالله من مواليد العام 1967، حاصل على ديبلوم في الفن وهو عضو في جمعية الفنون والنحت اللبناني. ولدى الفنان مشاركات فنية داخل لبنان وخارجه كما له معارض فردية عديدة.

14