الديستوبيا أو اليوتوبيا المضادّة مرآة الإنسان المعاصر

ما بين الواقع واللاواقع خيط أوهن من خيط العنكبوت.
الجمعة 2021/08/27
هل المستقبل مظلم فعلا؟ (لوحة للفنان عمر فهد)

يعود الحديث دائما عن اليوتوبيا والديستوبيا كلّما ازدادت الأوضاع سوءًا، حيث يعمد كتّاب الخيال العلمي إمّا إلى تخيل العوامل المؤدية إلى عالم بديل يطيب فيه العيش، أو تصوّر ما ينتظر البشرية من كوارث بسبب سوء تصرف الإنسان، سواء بتدمير البيئة وتجفيف مواردها، أو بابتكار أسلحة دمار شامل، وحتى بخلق ذكاء اصطناعي قد يعود عليه بالوبال، فكل مرحلة تطرح الرهانات المجتمعية التي تشغلها.

 تلتقي اليوتوبيا والديستوبيا في تصور عالم متخيل، حيث تحاول اليوتوبيا أن ترسم مشروع عالم مثالي، غير موجود على أرض الواقع، ولكن نتوق إليه ونسعى لبلوغه، بينما تعمل الديستوبيا على رسم الحدود التي لا يمكن لليوتوبيا أن تتجاوزها، فتضع الآمال العراض التي تثيرها اليوتوبيا موضع شك، وتحذّر من المساوئ التي يمكن أن يحتوي عليها عالم مفرِط في المثالية كالشيوعية والنازية مثلا.

ولئن كان المصطلحان أدبيين عند ظهورهما فإنهما تحوّلا إلى نظرة ناقدة للمجتمعات والأنظمة السياسية، لكونهما يقترحان رؤية بديلة عن المستقبل، بخيره أو شرّه.

اختلاف وتواشج

تعني يوتوبيا Utopia في استعمالها الشائع “المكان الذي لا وجود له”، وهي مستوحاة من Eutopia اليونانية التي تعني “المكان الحسن”، وكان الإنجليزي توماس مور (1478 – 1535) أول من استعملها في كتاب “يوتوبيا” صدر له عام 1514، أي في مرحلة شهدت فيها أوروبا أكبر صدمة ثقافية في تاريخها إثر الاكتشافات الكبرى، وحاول في تلك الرواية ربط اكتشاف شعوب غير معروفة في أميركا بتاريخ الإنسانية قاطبة.

 في تلك الفترة كان مور مستشارا للملك هنري الثامن الذي تميز عهده بالفساد والرشوة والابتزاز في مجتمع إقطاعي يسير إلى الانحطاط، يحلم بعالم آخر وجمهورية مثالية يزول فيها المال والملكية الفردية ويصبح الناس محكومين بالعقل والفضيلة، فتخيّل جزيرة تدعى يوتوبيا، تسكنها جالية مدنية تدار شؤونها بأفضل أشكال الحكم، وصاغ بمنهجية دقيقة المبادئ والقوانين التي تقوم عليها المدينة الجديدة. ولم يكن ذلك من نوع الهروب إلى مكان مثالي، بل كان قبل كل شيء تأمّلا فلسفيا في الأسس الإيتيقية والسياسية لمجتمع يسوده العدل والسعادة.

أما الديستوبيا، وإن نُسبت إلى جون ستوارت ميل عضو البرلمان البريطاني وقتها، فإنها ظهرت قبله، أي عام 1747، وبرسم مغاير Dustupia، قبل أن تأخذ شكلها الحالي في العام الموالي. وكانت تحمل معنى “البلد الشّقيّ”، ولكنها لم تحمل معناها الحالي إلا في أواسط خمسينات القرن الماضي عقب صدور رواية جورج أورويل “1984” في ظرف رانت عليه الحرب الباردة والخوف من اندلاع نزاع نووي لا يبقي ولا يذر.

نظرة جادة إلى الوضع الحالي تؤكد أننا دخلنا منذ منتصف القرن العشرين عهدا غير مسبوق من الأخطار الكبرى

وبالرغم من الاختلاف الظاهر بين اليوتوبيا والديستوبيا، حيث عادة ما تعرّف الديستوبيا بكونها يوتوبيا مضادة، فإنهما في الحقيقة تقيمان علاقة متواشجة، فاليوتوبيات لا تؤول كلها إلى ديستوبيات، والديستوبيات ليست دائما يوتوبيات فاشلة، بل إن اليوتوبيات تحوي أحيانا عناصر ديستوبية سواء بالنسبة إلى مجمل المواطنين أو جانب منهم، حين يتأسس النظام على استغلال الأقلية لفائدة الأغلبية، كما يتجلى في رواية أورويل المذكورة، حيث ثمة ميز بين أعضاء حزب الداخل والبروليتاريا.

في المقابل يمكن أن تحتوي الديستوبيات على عناصر يوتوبية حيث يمكن أن تكون بعض الفضاءات بمثابة ملاوذ من مجتمع ديستوبي في مجمله، كما هو الشأن في محمية المتوحشين ضمن رواية ألدوس هاكسلي “العالم الطريف” أو رواية إدوار بيلامي “النظر إلى الخلف”.

تصف روايات اليوتوبيا أحيانا يوتوبيات في حالة تدهور وانحطاط، وخير مثال على ذلك رواية جورج أورويل، وكانت نقدا لاذعا للستالينية، وليس للاشتراكية بوجه عام كما شاع، لأنه ظل وفيّا للاشتراكية حتى وفاته عام 1950؛ غير أن عددا من روايات الديستوبيا، وخاصة تلك التي تنضوي تحت جنس الرواية القيامية تصف مجتمعات تُحتَضر، أو نفرًا من الناجين يحاولون العيش قدر ما يستطيعون، وغالبا ما تغيب عنها الأسباب التي أدت إلى الكارثة، وكأنها من تحصيل الحاصل، أو تكتفي بالإشارة إليها عرضًا، كما هو الشأن في رواية “الطريق” للأميركي كورماك ماكارتي أو “المحطّة الحادية عشرة” للكندية إيميلي سانت جون مانديل وهي رواية استباقية تسرد أحداثا تقع خلال جائحة كالتي أصابت العالم اليوم.

ولئن كانت الديستوبيا تحذر من كوارث قد تحدث في المستقبل فإن هذا العالم المتسارع يأتينا بأخطار حقيقية تكاد تكون طوع اليد، وهو ما عبّرت عنه مؤخرا في الولايات المتحدة مجموعة من العلماء والباحثين في مجال التكنولوجيات المتطورة، رفيعة المستوى، في رسالة مفتوحة بعنوان “أولويات البحث لأجل ذكاء اصطناعي قوي ومفيد” نشرت في معهد مستقبل الحياة، وحذّرت فيها المجموعة من الذكاء الاصطناعي داعيةً إلى برنامج بحث مفصّل لتجنب انفجار ما أسمته بالقنبلة i، كناية عن الذكاء، وألحت على ضرورة “أن نتأكّد من أن منظومات الذكاء الاصطناعي تنفّذ ما نريد منها تنفيذه”.

فقد يجيء يوم ترفض فيه تلك المنظومات، التي ما انفكت تتمتع بنوع من الاستقلالية، الاستجابةَ لمبرمجيها. وهذا ما كانت روايات الخيال العلمي قد نبّهت إليه من خلال سيناريوهات ديستوبية شهيرة يرتدّ فيها المصنوع على صانعه، مثل المسخ الذي ارتدّ على الدكتور فرنكنشتاين في رواية ماري شيلّي، والحاسوب هال 9000 في “2001، أوديسا الفضاء” لأرثر تشارلز كلارك، وكان قد رفض تأدية ما يطلبه منه البشر، أو أفلام “ترميناتور” لجيمس كامرون، حيث استولت شبكة سكاينت على مقاليد الكون، أو “تسامٍ” لوالّي بفايستر حين صارت المعلوماتية نوعا من القوة الخارقة المعادية للبشر.

والسؤال الذي يطرح اليوم: كيف يمكن أن يساعدنا أدب اليوتوبيا والديستوبيا على إنعام النظر في الأزمات العالمية الكبرى، كالتغيّر المناخي والجائحة الحالية؟

بين الواقع واللاواقع

Thumbnail

يقول غريغوري كلايس الأستاذ المحاضر بجامعة لندن، إن هذين المصطلحين يفيداننا كثيرا في تبين حالنا اليوم، والأسباب التي أدت بنا إلى هذا الوضع، والسبيل الذي يسمح لنا بالخروج منه، لأن من أهداف اليوتوبيا تصور المستقبل على المدى البعيد، وتقديم تكهّنات، أدبية كانت أم نظرية، بما ينتظرنا. أي أن اليوتوبيا تقدّم لنا رؤية بديلة يتراءى لنا من خلالها عالم أفضل يمكن بلوغه والإقامة فيه، حتى وإن سخرت أحيانا من قلة كفاءتنا وعجزنا عن الوصول إليه.

فهيمنة الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية على نطاق واسع من مدة طويلة تستند إلى مثل أعلى يوتوبي، هو الازدهار الشامل كونيّا، والحال أن الجميع يعرف أن ذلك مستحيل، لاسيما أن موارد كوكبنا ليست مؤهلة لاحتمال عدد لا محدود من البشر.

وحسبُنا أن ننظر نظرة جادة إلى الوضع البيئي لنتأكد أننا دخلنا منذ منتصف القرن العشرين عهد احتباس حراري غير مسبوق، حيث يُتوقّع أن تزداد الحرارة في العالم حتى منتصف هذا القرن ثلاث درجات سليوس، وأن يؤدّي ذلك إلى انقراض أشكال حياة كثيرة على الأرض، بما فيها الحياة البشرية؛ ما يعني أننا نواجه أخطر سيناريو ديستوبي تخيله الكتاب، ولو أننا شهدنا مثيلا له في منتصف القرن الماضي حين تخيلنا مصير الإنسان عند نشوب حرب نووية شاملة.

ولكن حتى إزاء مستقبل خطير كهذا لا نعدم روايات يوتوبية ترسم ملامح عالم ممكن، إذا ما استطاع الإنسان أن يحافظ على بيئته، كما في رواية “وزارة المستقبل” للأميركي كيم ستانلي روبنسون.

إن الخوف الذي ولّده الإرهاب والانحلال المجتمعي والتطور التكنولوجي من العوامل التي ترسّخ حضور الديستوبيا، حيث يبدو التوازي بين الواقع واللاواقع خيطا أوهى من خيط العنكبوت، فكلما تقدم المجتمع في سيرورة الزمن ازدادت خيبات مواطنيه، إذ هم يواجهون كل ما يؤكّد أنهم يعيشون واقعا ديستوبيا، حيث كل شيء يثبط العزيمة، كالضرائب والبطالة والشعور بغياب الأمن وخنق الحريات وتراجع القوانين وتسلط الرقابة. وهو ما يجعل الديستوبيا تهيّئ الناس إما للاستعداد لمستقبل مظلم أو للإيمان بأن وراء الغيوم نجما يلمع ونورا يهلّ.

أما اليوتوبيا فتحتوي على ثلاثة عناصر، أولها أدبي والثاني أيديولوجي والثالث هو ما تصنعه المجموعات البديلة التي أسستها عدة حركات سياسية واجتماعية. وهي التي يعوّل عليها اليوم للخروج من مأزق الأزمات الحالية.

15