الدعاية الانتخابية الأميركية والخروج عن المألوف

إن أهم ما تضمنه الانتخابات أن تكون المناظرات الانتخابية من الأساليب المشروعة التي عكف على إخراجها من عتمة الظلمات إلى النور فلاسفة الفكر السياسي، وتتمثل في مبارزة انتخابية علنية بين المنافسين يديرها ويشرف عليها أفراد أو هيئات محايدة والحكم فيها هم هيئة الناخبين.
ما تقود إليه المناظرة الانتخابية هو إيضاح وجهات النظر المتباينة وتحديد الفروق بين موقف وبرنامج وشخصية كل من المتناظرين، ويلاحظ أن أسلوب المناظرة هو نتيجة مؤجلة لا تظهر فور إجرائها.
تتعدد التسميات التي تطلق على المناظرة الانتخابية، فقد يسميها البعض “مبارزة انتخابية”، أو “معركة انتخابية”، وتحدث هذه المناظرات عن طريق التلفزيون بصورة علنية، كما يمكن أن تتم عن طريق الإنترنت، ومن أبرز المناظرات التلفزيونية ما حدث في أميركا في العام 1960 بين الرئيس الديمقراطي جون كيندي وريتشارد نيكسون.
استوقفتنا في عجالة الدعاية الانتخابية في الولايات المتحدة بظاهرتها السلبية إلى حد ما “ظاهرة التهكم والتهجم” وما لها من مردودات عكسية. وتشتد الحملة الانتخابية الأميركية هذه الأيام وكأن المتابع لها يشعر بأن حربا كلامية يدور رحاها بين المتنافسين على كرسي الرئاسة، دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري وكامالا هاريس عن الحزب الديمقراطي.
على الجانب الآخر يقف الجمهور الأميركي حائرا أمام ما يسمع ويرى بخروج الدعاية الانتخابية عن مسارها المنطقي السليم، في ما يتعلق بالمناظرة بين هاريس وترامب وقد ألقى الأخير على منافسته قولا ثقيلا نقتبس البعض منه “لا أكن احتراما كبيرا لذكائها وأعتقد أنها ستكون رئيسة سيئة للغاية”، وأردف قائلا “ليس عليكم أن تتخيلوا كيف ستكون رئاسة كامالا هاريس لأنكم تعيشون هذا الكابوس الآن”، موجها كلامه إلى الرئيس الحالي جو بايدن، كما شكك دونالد ترامب في الهوية العرقية لكامالا هاريس، هذا غيض من فيض. في الوقت نفسه ردت هاريس بأن تصريحات ترامب تعد تكرارا لخطاب الانقسام وقلة الاحترام.
ولا مراء أن الضرورة، بما لها من أحكام، أن تكون المناظرات بين المتنافسين على ما يرام فلا يظهر اختلاف من هذه الجهة أو تلك، فالتنافس الأخلاقي في الانتخابات وتحديد الأهداف والإستراتيجيات ما يتوق لأن يسمعه الجمهور غير المؤطر أو المنتمي إلى أي حزب، الصورة تبدو اليوم ليست كالمعتاد، وما يجري في الولايات المتحدة من تشهير وذم هذا بحد ذاته يجعل جمهور الناخبين يعزف عن التصويت لأي طرف.
بل إنه يجوز القول إن هنالك الكثير من القضايا التي يسعى إليها الشعب الأميركي ليحقق مبتغاه منها، الضرائب الباهظة، والهجرة التي تقض مضاجعه، بجانب عدم الرضا من شريحة واسعة في المجتمع الأميركي عن دعم إسرائيل غير المحدود خصوصا بعد العدوان الإسرائيلي على غزة، الشاهد بأن حدة الدعاية الانتخابية سوف تنعكس سلبا على الناخب الأميركي وأن نسبة لا بأس بها من الناخبين سوف تقاطع الانتخابات.
نقف أيضا أمام التباين الرهيب فعلى مدى السنين والعقود لم تكن الدعاية الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية بهذه السخونة، هذه الصفة الشخصية لترامب جعلت من الانتخابات في بلاده عبارة عن حرب الهدف منها إقصاء الآخر بطريقة غير حضارية، حتى ولو بحد السيف وهذا ما شاهدناه بعد هزيمته أمام بايدن، عندما اقتحمت جماعته بعض المؤسسات في أميركا احتجاجا على نتيجة الانتخابات، وربما يحدث أكثر في حال خسر الجولة الانتخابية المزمع إجراؤها في غضون أيام قليلة.
حال عدم الحسم ليس كل شيء على ما يرام بطبيعة الحال. ثمة ملامح غير جلية للمرحلة القادمة، فرغم استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقارب المتنافسين، إلا أنه ما زال تحديد أو معرفة من هو أقرب للفوز غير واضح، هنالك استقطاب حاد لكلا المرشحين خصوصا في الولايات المتأرجحة، فضلا عن الجالية العربية التي تتجه نحو مرشح ثالث بعيدا عن ترامب وهاريس، لهذا ربما يكون هنالك تعادل في النتيجة.
وفقا للدستور الأميركي، تقع مسؤولية اختيار الرئيس على مجلس النواب المكون من 435 عضوا يمثلون 50 ولاية، ويتم اختيار الرئيس من بين ثلاثة مرشحين حاصلين على أعلى عدد من الأصوات، في المجمع الانتخابي يصوت النواب المنتخبون عن كل ولاية ككتلة واحدة، ويكون لديهم صوت واحد فقط، وبغض النظر عن عدد ممثلي الولاية في مجلس النواب يجب على المرشح الفائز أن يحصل على الأغلبية البسيطة من الأصوات، والبالغة 26 صوتا.
مجمل القول، وجود دونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة على رأس المرشحين للانتخابات لا يبدو إيجابيا، وهذا يعني في حال لم يصل إلى عتبات البيت الأبيض، أن هنالك توقعات غير جيدة، ربما يحدث ما حدث قبل أربع سنوات، أو تتطور الأمور لتصل إلى مواجهات بين أنصار الجمهوريين والديمقراطيين، وليس بعيدا أن ينقسم العرب عربين، وخير شاهد كما أسلفت آنفا ما حدث عندما خسر ترامب الجولة الانتخابية في الجولة الثانية.