الدراما السورية تفقد مؤسّسها علاء الدين كوكش

فقدت الدراما السورية برحيل المخرج علاء الدين كوكش أحد أعمدتها وصانع مجدها، وهو الذي قدّم مسيرة حافلة بالفن أخرج وكتب خلالها أبرز الأعمال الدرامية السورية، التي نالت شهرة واسعة في سوريا والعالم العربي، لعلّ أبرزها مسلسله الشهير “أسعد الوراق” الذي تعاون فيه مع الممثلة المخضرمة منى واصف.
بعيدا عن الصخب وفي عزلته القسرية يرحل المخرج السوري علاء الدين كوكش ساكن دار السعادة للمسنين بدمشق، التي اختارها ليعيش فيها وحدة الشيخوخة ويهرب من احتياجات مقومات الحياة العادية؛ من دفء وإنارة وطعام.. وأنيس.
كان كوكش أحد أهم مؤسسي الدراما السورية، وباسمه ارتبطت نجاحات أعمال فنية كثيرة، فمن ينسى مسلسله “أسعد الوراق” المأخوذ عن رواية صدقي إسماعيل “الله والفقر” والذي كتب له السيناريو عبدالعزيز هلال، وعمله في هذه السباعية مع الفنانة الشهيرة منى واصف في دور منيرة، ومن ينسى المشهد الذي تصرخ فيه منيرة باسم زوجها أسعد لحظة علمها بموته فيعود النطق إليها. ومن ينسى تعاونه المثمر مع القاص حكمت محسن والعديد من الكتاب الآخرين مثل زكريا تامر ومحمد الماغوط.
مؤسس البيئة الشامية
الراحل كوكش كان يتمتع بثقافة عالية، وهو الذي درس الحقوق عاما واحدا، ثم تركه ليدرس الفلسفة وعلم النفس، إلى أن اجتذبه الفن مبكرا وعمل في المسرح مخرجا، وقدّم فيه العديد من الأعمال.
تعاون مسرحيا مع الكاتب الراحل سعدالله ونوس فقدّم مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”، ثم “حفلة سمر من أجل خمسة حزيران” التي خاطبت الوجدان السياسي العربي، وحقّقت نجاحات كبيرة في سوريا ولبنان. وبعدها قدّم مسرحية “لا تسامحونا”، وعندما ذهب للعمل في اليمن ليساهم في تأسيس التلفزيون اليمني قدّم هناك مسرحية “الطريق إلى مأرب”.
وعلاقة كوكش بالكاميرا لم تكن من حيث كونه مخرجا فحسب، بل ظهر أيضا في أدوار تمثيلية متفرقة؛ ففي السينما عمل في فيلم “المتبقي” الذي يحكي عن فلسطين، ونال عن هذا الأداء تكريما خاصا في مهرجان دمشق السينمائي. كما ظهر في العديد من الأعمال التلفزيونية، منها “كليوباترا” بإدارة المخرج وائل رمضان، وكانت مساهمته الأخيرة كضيف شرف في مسلسل “شارع شيكاغو” الذي يعرض الآن، وبإدارة المخرج محمد عبدالعزيز، وبينهما شارك ممثلا في مسلسل “صلاح الدين الأيوبي” مع المخرج حاتم علي.
في التلفزيون كان أحد مؤسسي دراما البيئة الشامية، وممّا يميّز أعماله اعتماده على الأسلوب المسرحي في الأداء التمثيلي، حيث يصوّر العمل دفعة واحدة وبعدة كاميرات تتابع تسجيل الأحداث. كما أنه أول من أوجد صوت الراوي الزجلي الذي كان يقدّم مقاطع صوتية تواكب الأحداث الدرامية للعمل، والتي ظهر فيها الشاعر والتشكيلي الشهير حسين حمزة بصوته المميز العريض الأجش.
وفي مسلسله الأشهر “أسعد الوراق” استخدم طريقة مبتكرة في الموسيقى التصويرية من خلال أصوات الكورال البشرية المرافقة. ثم قدّم تاليا مسلسل “أبوكامل” للكاتب فؤاد شربتجي والعديد من الأعمال البيئية، وكان مشرفا على إنتاج أول جزأين من المسلسل الشهير “باب الحارة”.
ومن أولى أعمال الفنان الراحل مسلسل “أرشيف أبورشدي” عام 1967، ثم مسلسله الشهير “حارة القصر” ومن ثمة مسلسله “أسعد الوراق”. كما قدّم في الدراما البدوية مسلسلات شهيرة منها “ساري” و”رأس غليص”. كما قدّم في تجربة نادرة مع الكاتب محمد الماغوط مسلسل “حكايا الليل والنهار”. ولاحقا قدّم أعمالا شهيرة منها “وضاح اليمن” و”رجال العز” و”أهل الراية”، فيما كانت آخر أعماله في الدراما تحت عنوان “القربان” الذي أخرجه في العام 2014. كما صدر له كتاب “مسرحيات ضاحكة” ومجموعة قصصية تحت عنوان “إنهم ينتظرون موتك” وله رواية باسم “التخوم”.
صدمة الرحيل
لم يمرّ حدث رحيل كوكش دون أن يسجل أصدقاء وزملاء له ما يعبّرون به عن آرائهم في صديق أو رفيق أو معلم. فرفيق مشواره الطويل المخرج هيثم حقي كتب عنه “وداعا للصديق والمخرج الكبير علاء الدين كوكش، خبر محزن لرحيل فنان وإنسان له بصمة في تاريخ العمل الدرامي التلفزيوني السوري، تعرّفت على علاء فور تخرّجي من معهد السينما في موسكو والتحاقي بالعمل في التلفزيون السوري عام 1973، وكان كوكش في تلك الفترة من السبعينات المخرج الأبرز في الجيل الأول للدراما التلفزيونية، كان محبا، لا عقد لديه ولا غيرة بل تنافس شريف، وقد أحببته كثيرا كمثقف متميز وفنان شارك في تأسيس الفن الدرامي التلفزيوني السوري، وقد بادلني المحبة التي استمرت على مدى مشوار عملنا الطويل، وازدادت المحبة بما يحمله قلبي من مودة لابنته الرائعة سمر تلميذتي وإحدى الممثلات الرائعات التي ازدان بها عملي (الثريا)“.
وتروي الفنانة السورية المخضرمة منى واصف أنها كانت في زيارة للسويد بعد ثلاثين عاما من إنجاز مسلسل “أسعد الوراق”. وفي حفل تكريمها اقترب شاب سوري أربعيني منها، وقال لها “أنا هنا منذ خمسة وعشرين عاما، وأذكر من دمشق ثلاثة أشياء. الجامع الأموي وجبل قاسيون وصرختك في مسلسل “أسعد الوراق”.
وتضيف واصف متحدثة عن كوكش “هو رفيق عمر ودرب ونجاحات، في أي مكان أذهب إليه يقولون لي نحن لا ننسى صرختك في مسلسل (أسعد الوراق)، ولكن ما يربطني معه كمبدع مساحات أكبر سواء في سوريا أو دبي وغيرهما. الشيء الهام الآن أن يتم توثيق كل أعماله وسيرته لكي لا تنسى. وداعا يا جاري ورفيق دربي وصديقي. لا أعرف ما أقول فأحيانا تعجز الكلمات عن أن تبوح بما نريد. هو فنان خلقت الدراما السورية على يديه في بداياتها، والذي قدّمه يجب ألّا ننساه، بل أن يدرّس. حزنت برحيله، لأنه فنان يتمتّع بعمق في معالجة مواضيع الإنسان”. واستطردت متحسرة “الراحل انتهى منسيا، لكن ميزة الموت أنه يحيي الكبار فجأة”.
كان علاء الدين كوكش مهتما بدعم المخرجين الشباب في أعمالهم، إذ لم يبخل بتقديم أي عون معرفي ومهني لهم، بل وقف ممثلا أمام كاميراتهم، كما حدث في مسلسل “كليوباترا” عندما قدّم دورا كممثل تحت إدارة المخرج الشاب وائل رمضان، الذي يقول عن تلك التجربة “علاء الدين كوكش هو أحد مؤسسي الدراما السورية ورموزها، وكذلك من حيث الأخلاق والتعامل والاحترام والثقافة. أستاذ كبير تشرفت بالعمل معه في مسلسل: كليوباترا، حيث أدّى دورا تمثيليا فيه وهو ملك قبرص، وكنت سعيدا بالتعاون مع هرم فني كبير مثله، وأنا الذي أعتبر نفسي بالنسبة إليه مخرجا صغيرا، لكنه وضع ثقته فيّ، وهذه التجربة قدّمت لي الشيء الكثير. سألته بعد سنوات عن التجربة فقال لي: كنت سعيدا بها وشعرت بأمان معك”.
ومن الفنانين الذين دعمهم الراحل في بداياتهم يحضر الممثل مالك محمد الذي قال “علاء الدين كوكش فنان يتبع النظرية الكلاسيكية في الفن، وهو يلحّ دائما على أن العمل الناجح يبدأ من النص القويّ الذي يجب أن نعمل من خلاله على تجاوز كل المشاكل التي يمكن أن تعترض نجاح أي عمل”.
ويضيف “كان ينصح الممثل بوجوب دخوله موقع التصوير وهو يحفظ النص عن ظهر قلب، بحيث يصير شيئا من مسلماته وهذا يعني أن الأداء سيكون عفويا. هو فنان خجول وحساس وأصدقاؤه قليلون. كان يحفّزنا على القراءة، وأذكر أننا زرنا في حلب معرضا للكتاب وألحّ عليّ بأن أشتري كتبا عن الفن وأن أدفع ثمنها، وكانت الفكرة أن الكتاب هو الشيء الوحيد الذي يجب أن يتم دفع ثمنه ولا يهدى، لكي يشعر الإنسان بقيمة هذا الفكر المدوّن فيه. وعندما نشر مجموعته القصصية أهداني نسخة موقّعة، وطلب مني دفع ثمنها تكريسا لهذه الفكرة”.
![]()
|
في التلفزيون كان أحد مؤسسي دراما البيئة الشامية، وممّا يميّز أعماله اعتماده على الأسلوب المسرحي في الأداء التمثيلي
|
---|