الدراما الرمضانية تفتقد عملا بحجم ليالي الحلمية

كل حلقة من حلقات “ليالي الحلمية” هذا المسلسل الآسر كانت كفيلة ولا زالت حتى اليوم بأن تهز قناعات وتحرك وعيا كامنا من أبسط وأفقر فئات المجتمع إلى أكثرها قدرة على التأثير والتغيير ليثبت أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبدالحافظ أنهما ثنائي من العيار الثقيل والزمن الجميل.
“منين بيجي الشجن… من اختلاف الزمن، ومنين بيجي الهوى… من ائتلاف الهوى، ومنين بيجي السواد… من الطمع والعناد، ومنين بيجي الرضا… من الإيمان بالقضاء، من انكسار الروح في دوح الوطن، يجي احتضار الشوق في سجن البدن”.. أغنية وموسيقى تؤديان دورا بطوليا.
مجرّد سماع هذه الأغنية يحيلنا إلى ما اتفق الجميع على تسميته بالعصر الذهبي للدراما التلفزيونية، إذ يحرّك فينا إحساسا غريب الجمال، يمزج بين الحب والحنين، والاعتزاز بـ”عمل بطولي”، وبكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى، على مستويات الكتابة والتمثيل والإخراج.. وحتى التلقي، نعم التلقي، ذلك أن الالتقاء حول جهاز التلفزيون كان بمثابة الموعد المقدس الذي لا يتخاصم فيه أفراد الأسرة على جهاز الريموت كونترول الذي لم يظهر أصلا، في عصر ما قبل الفضائيات.
أيقونة مكتملة الأضلاع

ينبغي القول إن ليالي الحلمية قد حقق الشهرة والنجومية لكاتبه أكثر من مخرجه إسماعيل عبدالحافظ
“ليالي الحلمية” مسلسل طبع جيلا بأكمله، ونسج على منواله ـ أو حاول ـ كتّاب كثيرون آخرون في مصر والعالم العربي، من حيث الرغبة في مسح تحوّلات اجتماعية وسياسية وثقافية ورصدها من خلال منطقة سكنية تمثل بؤرة لأحداث دراماتيكية تصلح لأن يستأنس إليها علماء الاجتماع.
كتب هذه السلسلة التي امتدت إلى عدة أجزاء، أسامة أنور عكاشة (1941 ـ 2010)، وأخرجها إسماعيل عبدالحافظ (1941 ـ 2012)، ويصور فيها التاريخ المصري الحديث منذ عصر الملك فاروق حتى مطلع التسعينات. وكانت بداية عرض الجزء الأول عام 1987 ثم امتدت إلى عام 1995.
المسلسل يقدم التاريخ المصري من خلال تاريخ حيّ الحلمية، الذي كان في بدايته حيا راقيًا للباشاوات والطبقة الأرستقراطية، ثم تحول إلى حي شعبي يقيم فيه البسطاء من عامة الناس، وشارك في أجزاء المسلسل نخبة من ألمع نجوم الفن المصري في تتابع مستمر للأحداث والشخصيات، زاد عددهم على 300 ممثل، وهو ـ في أجزائه الخمس ـ من إنتاج “قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري” أي أنه في مأمن من انزلاقات وانزياحات وتحريفات قد يجر إليها القطاع الخاص.
وبالعودة إلى هذه الأغنية التي وصفت بالأيقونة مكتملة الأضلاع، وكتب كلماتها الشاعر سيد حجاب، حيث تجاوزت كونها مجرد شارة غنائية لأطول وأمتع مسلسل اجتماعي في التاريخ العربي الحديث، استقلت بنفسها كأغنية مازال الفنان محمد الحلو، يؤديها في العديد من المناسبات كان أهمها مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية السابع والعشرين المقام على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية عام 2018، أما الألحان فتحمل بصمة وتوقيع الموسيقار ميشيل المصري.
نعم، إن الدخول للتحدث في عمل درامي شهير من خلال شارته الموسيقية أو الغنائية لهو دليل على مدى رسوخه في الأذهان لكثرة مشاهدته والافتتان به، على غرار أفلام عالمية ـ ولم لا ـ مثل أغنية سيلين ديون، في “تيتانيك”، وقبلها بكثير، موسيقى فيلم ” من أجل حفنة من الدولارات” لكلينت إستوود، والتي وضعها الإيطالي إنيو ماركوني.
وما دمنا مازلنا عند الشارة الغنائية لهذا المسلسل، فإن الإتقان والمهنية يظهران حتى في عمليات التقطيع التي تخص “الجينريك” فكل وجوه الممثلين تبرز حسب مساحة الدور والفاعلية والتسلسل الزمني دون أن تحرق الأحداث أو تستبقها.
عادة ما تواجه الأعمال الدرامية الموزعة على أجزاء، ولفترات زمنية قد تمتد لسنوات، إشكاليات كثيرة تتعلق بتدفق الأحداث أو نضوبها، إذ أنها لا تحافظ ـ بالضرورة ـ على نفس السوية من حيث تطور الأحداث والشخصيات.
كما أن رفد العمل بخطوط درامية جديدة، من شأنه أن يشوش المتلقي أو يصيبه بخيبة أمل بالنظر إلى تعاطفه مع شخصيات دون غيرها.
وتأتي المفاجآت المنتظرة الأخرى كتبديل ممثل بآخر أو التمطيط الذي يصيب العمل بالوهن ويسقط في شراك الملل، إذ أن المؤلف إنما استمر في أجزاء جديدة و”تورّطّ” فيها بفعل إقبال الجمهور عليها ورغبته في التمديد، وهنا تكمن المشكلة التي تقع فيها أشهر المسلسلات المصوّرة، ليس في العالم العربي فقط بل لدى أعتى الشركات الإنتاجية وأكثرها حرفية وقدرة على التجديد.
أما عن الغياب المفاجئ لمنتجي العمل أو أحد الشركاء فمشكلة عاشها مسلسل “ليالي الحلمية” وعانى منها، ولا يزال الجدل مستمرًا حول الجزء السادس من مسلسل “ليالي الحلمية”، حيث اتهم الكثيرون ورثة الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة بتلويث أيديهم بتوقيعهم بالموافقة على عمل جزء سادس يكتبه كل من عمرو محمود ياسين وأيمن بهجت قمر، ووصفوا المسلسل بأنه لا يليق، حتى أن البعض قام بنشر صور لصاحبي الملحمة الدرامية أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبدالحافظ، وعلقوا عليها قائلين “ارحموهما في قبريهما”.
وفي هذا السياق، شن المخرج محمد العدل هجومًا على منتجي الجزء السادس، قائلا على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك “مع الاحترام والاعتذار لأيمن بهجت قمر ومجدي أبوعميرة وأسرة أسامة أنور عكاشة، ليالي الحلمية لا تخصكم وحدكم، إنها جزء من تاريخنا. تشويه هذا العمل ليس حقا لكم على الإطلاق، وسأعتبره جزءا من العشوائية التي نعيشها. حرام عليكم سيبوا الراجل مرتاح في تربته”.
مواجهة بين طبقتين
الجزء الأول، يتكون من 18 حلقة ويعتبر مقدمة للمسلسل وتعريفاً بالشخصيات الرئيسية الثلاث وهم: سليم البدري (يحيى الفخراني) وسليمان غانم (صلاح السعدني) ونازك السلحدار (صفية العمري). ويفتح فيه أسامة عكاشة، أبواب الصراع، منذ بدايته، بين حساسيّتين اثنتين هما الإقطاع والبرجوازية الصاعدة وبينها الرمزية الفاقعة للسطوة والامتيازات وهي السيدة نازك السلحدار التي تذهب في استغلال الصراع نحو أقصاه، وذلك على خلفية مجيء العمدة سليمان غانم، للثأر لوالده الذي مات في السجن كمدا بسبب مكيدة دبرها والد سليم البدري، أول المبشرين بعصر صناعي واعد تتلمسه البرجوازية الوطنية.
بدأت المواجهة بين الطبقتين بشراء غانم لأسهم في مصنع البدري للمنسوجات ثم في فضح زواج سليم البدري السري من علية بدوي القماش.
تكتشف نازك السلحدار أن زوجها سليم البدري متزوج عليها في الخفاء فتقوم بمواجهته واستفزازه ليطلقها ثم تتزوج خصمه وعدوه الجديد سليمان غانم، على سبيل الكيدية والانتقام.
تشترط نازك على سليمان أن تكون العصمة بيدها للموافقة على الزواج. يوافق العمدة سليمان على مضض لكنه يقبل من أجل إغاظة خصمه الدائم ابن البدري. وهنا تبرز المفارقات ذات الطابع الكوميدي بين الإرث الإقطاعي الذي يمثله العمدة بمزاجه النزق وانفعاليته الزائدة، وبين سليم البدري سليل البرجوازية التي تعرفت إلى الثقافة الغربية لكنها حافظت على حس الظرافة وخفة الدم المصرية.
هذه الزيجة التي لم تدم طويلا بين امرأة أرستقراطية وفلاح مصري تظهر الكثير من المفارقات في تفاصيل معيشية صغيرة برع أسامة عكاشة في تصويرها. ثمرة هذه الزيجة غير المتكافئة هي بنت (زهرة) تودعها أمها لدى والدها كي يربيها في نوع من الندم على هذه التجربة.
وفي هذه الأثناء تعود نازك السلحدار إلى الزواج مرة ثانية من سليم بدري، الرجل الجنتل الذي يحترم أنوثتها ويقدرها حق قدرها رغم أخطائه، وذلك في غوص من المؤلف داخل طبيعة هذه الشخصيات التي تحكمها قيم طبقية، لكن الأمر لا يخلو من رمزية سياسية واجتماعية لدى المؤلف المتخصص أصلا في الدراسات الاجتماعية، إذ يبدو واضحا وكأن نازك هي الدولة التي يتناوب على سياستها فئتان اجتماعيتان أو ربما هي ظلت ممزقة بين الطرفين، وبينهما “زهرة” مصر الجديدة (إلهام شاهين)، ذات المنبت الفلاحي والطموح الحداثي.. وما عانته للتوازن بين هذا وذاك.
ينسج عكاشة خيوطه الدرامية بدقة وعلى مهل فيما يخص الأبناء غير الأشقاء ضمن تداخل الزيجات وتناوبها بين سليمان غانم، سليم البدري، وبينهما نازك السلحدار، فهذا علي، ابن سليم البدري (ممدوح عبدالعليم)، من زوجة أخرى يتربى عند خالته أنيسة (مؤنسة توفيق) المتزوجة من توفيق البدري (حسن يوسف) وتتطور به الأحداث لاحقا ليتعلق بزهرة بنت نازك من جهة سليمان غانم، وذاك عادل (هشام سليم)، أخوه غير الشقيق.. وتتوالى الأحداث وتتصاعد لتنكشف في كل مرة علاقة كانت غامضة أو نسب ظل ملتبسا فتبدأ الصورة بالاكتمال، لكنها تعود وتتسع فتزيد من التشويق والاكتشاف.
تتوالى الأحداث في الأجزاء المتلاحقة، والتي دأب جمهورها من المحيط إلى الخليج على انتظارها زهاء العام، وتتشابك المصائر لتتبدل شخصيات وتثبت شخصيات أخرى، حتى أصبحنا نرقبها تكبر حقيقة لا من خلال الماكياج.
تحولات نصف قرن

لم يغفل عكاشة فئة إلا وتحدث عنها بذكاء ليمسح تحولات قاربت النصف قرن من تاريخ مصر الحديث
الظلال السياسية لـ”ليالي الحلمية” تمشي بالتوازي مع سير الأحداث الاجتماعية، فيعكس في كل مرة أحدهم الآخر، وتبدأ هذه التأثيرات من هجرة الصناعي ذي المنشأ البرجوازي سليم البدري، إلى أوروبا أثناء ثورة 1952 يوليو، وما رافقها من تأميم أضرّ بالقوى الوطنية الصاعدة، ثم مجيء فئة الإقطاعيين وانتشارهم في المدن من خلال سليمان غانم.
تستمر السياسة والمجتمع في السير بخط متواز من خلال شخصية علي بن البدري الذي يسجن في نكسة يونيو 1967 ثم ينطلق بلا هوادة في عالم المال والأعمال، أما أخوه غير الشقيق عادل، فيشترك في حرب أكتوبر 1973 ويعمل في مصنع البدري ثم يديره ويتزوج من قمر السماحي وسهيلة الفلسطينية ليصبح في الجزء الأخير من المسلسل مخرجا سينمائيا فاشلا، إلا أنّ أختهما غير الشقيقة زهرة، تتجه إلى عالم الصحافة كقوة ناعمة تؤثر وتتأثر بالأحداث على قدر هوامش الحريات، وتؤسس لجيل جديد من البرجوازية الصغيرة.
يمضي أسامة أنور عكاشة في تشريح المجتمع المصري بقلم يشبه مبضع الجراح، طيلة خمسة أجزاء بنهاراتها ولياليها، لا يهمل صغيرة ولا كبيرة طيلة هذه الملحمة الاجتماعية التي وقّع عليها اسمه بكل جدارة واستحقاق.
تعرض جميع الفئات الاجتماعية نفسها في “ليالي الحلمية” دون تكلف أو فبركة أو إقحام بل بمنتهى السلاسة والعفوية. ولم يغفل عكاشة فئة إلا وتحدث عنها بذكاء وإسهاب ليمسح تحولات قاربت النصف قرن من تاريخ مصر الحديث، دون انحياز واضح أو مفضوح، رغم هواه الناصري الذي يظهر ويختفي في كل مرة، لكنه يبدو “بوصلة” بالنسبة إليه من خلال تمجيده لبعض الشخصيات مثل الشهيد طه السماحي، الذي كان يتميز بذاك النقاء الثوري حين نذر نفسه للنضال من أجل وطنه وأصبح رمزا من رموز المقاومة الوطنية تسانده نجاة عبدالفتاح سلطان التي تزوجته فيما بعد ومعهم كمال خله، المسيحي الوحيد بالمسلسل.
ولم ينس عكاشة شخصيات فاعلة تمثل الطبقة العاملة مثل الأسطى زكريا، الأسطى شاهين، الأسطى متولي وبقية عمال مصنع البدري الدائمين، وكذلك غالبية سكان الحلمية الذين خرج منهم فدائيون قبل ثورة يوليو وبعدها.
كما لم يتجاهل صاحب “ليالي الحلمية، الفئات الوضيعة من السوقة والأوغاد وسقط المتاع مقل بسيوني (بسه)، وخميس (خمس) وهما من حثالة المجتمع فلا يتورع الواحد منهما عن كسب أيّ مال بالحلال أو بالحرام، وقد مارس الاثنان النصب والاحتيال على سليمان غانم، بطريقة تبدو مثيرة للضحك رغم خساستها.
العمود الفقري الذي بنى عليه عكاشة لعبته الدرامية في “ليالي الحلمية” هو قطبا الصراع المتمثل بين سليم البدري وسليمان غانم، وما بينهما من مناكفات وسلوكيات كيدية أضفت على القصة المزيد من الطرافة وتمثلت في أداء صلاح السعدني (سليمان غانم) الذي كثيرا ما يجنح نحو المبالغة، أما يحيى الفخراني (سليم بدري) فتميز بحس عال من الأداء الواقعي الذي لا يخلو من فرادة وتميز.
بين هذين الرجلين تسير الأحداث رقراقة وبمنتهى الانسيابية حتى كأن الممثلين حفظوا أدوارهم كاملة منذ الجزء الأول، وقبل أن يكتبها المؤلف تتابعا حتى نهاية الجزء الخامس، أما في السادس الذي كتب بعد وفاة عكاشة فقد اختلف في شأنه الجمهور والنقاد وحتى الممثلون.
ينبغي القول إن “ليالي الحلمية” قد حقق الشهرة والنجومية لكاتبه أكثر من مخرجه إسماعيل عبدالحافظ الذي استنزفه هذا العمل على حساب أعماله الناجحة والمميزة الأخرى، بالإضافة إلى أن البعض يتناسى قدرته على تحويل الورق إلى عوالم تنبض حياة، وجهده الخارق في إدارة كوكبة هائلة من الممثلين الذين كانوا في قمة نضجهم في مرحلة استعاد الناس فيها ثقتهم بالتلفزيون.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على رحيل أسامة وشريكه إسماعيل ووفاة عدد كبير من مبدعي هذا العمل، نرى أنه أشبه بالإرث الخالد والأساس المتين الذي يسمح بالبناء فوقه تكملة للمسار الذي بدأه عكاشة وعبدالحافظ.