الدراما الرمضانية العراقية وفرة إنتاجية وصراع فارغ

بات رمضان شهر الدراما بامتياز في شتى الأقطار العربية التي تتفاوت في أعمالها ودرجة انتشارها وقيمتها الفنية وقدرتها على تجاوز المحلية إلى الجمهور العربي الواسع. وفيما نجحت دراما دول عديدة أولها مصر وسوريا ومن ثم دول خليجية وأعمال عربية مشتركة، ظلت أعمال دول أخرى رهينة المحلية ما أثر في قيمتها، على غرار الدراما العراقية.
فوجئ متابعو الدراما التلفزيونية في العراق، خلال شهر رمضان الحالي، بطفرة غير مسبوقة في كم المسلسلات المحلية إذ زادت عن عشرين مسلسلا، بالرغم من الانتشار الخطير لجائحة كورونا في البلد.
ويُشار إلى أن هذا العدد، الذي أُنتج بميزانيات كبيرة ويقود أغلبه كتّاب ومخرجون شبّان ويدعمه الكبار، يُعدّ أضعاف عدد مسلسلات رمضان الماضي، ومن أهمها: مسلسل “المنطقة الحمراء”، “جوري”، “الهروب”، “طيبة”، “كمامات وطن”، “”أم بديلة”، “قسطرة”، “القوت والياقوت”، “بنج عام” و”العدلين”.
مسلسلات اجتماعية وسياسية
يدور مسلسل “المنطقة الحمراء”، ﺗﺄﻟﻴﻒ مصطفى كاظم وﺇﺧﺮاﺝ باسم قهار، حول عالم آثار عراقي اسمه يوسف (يمثل دوره المخرج) عاش مغتربا في فرنسا، وعاد إلى بلده ليخدمه بصدق، لكنه يجده قد أصبح كله منطقة حمراء، فيصطدم بأمور لم تكن في حسبانه ومتغيرات ما خطرت على باله يوما، نتيجة لتداعيات الحروب والحصار التي فعلت فعلتها في بنية المجتمع، وحتى على أقرب الناس له وهو أخوه التوأم، الذي يطالبه ببيع بيت العائلة، ويتهمه بأنه عاش مرتاحا بين أحضان النساء في بلاد المهجر، في حين أنه عانى من أهوال الوطن خلال سنين طويلة من الحصار القاهر.
يقابل يوسف جارته رحمة، التي تخبره بطلاقها من زوجها كونها مصابة بالسرطان، ويأمل منها أن تساعده في ترتيب حياته الجديدة في العراق، لكنها تسبب له مشكلة كبيرة لا يمكن الخروج منها، تتمثل بقتله زوجها دفاعا عن النفس وإخفاء جثته، ومن ثم يتفاجأ بعصابة، مرتبطة بالسياسيين الفاسدين، في حوزتها مقاطع فيديو مسجلة للجريمة. ويدخل في متاهات لا حد لها، حيث تطلب منه، بالتهديد والضغط النفسي والجسدي، تهيئة قطع أثرية لتهريبها إلى الخارج. وبذلك يغدو في وضع مركب بين الإحباط والنكوص والأمل في التغيير.
ويستوحي مسلسل “الهروب”، الذي يؤدي فيه ممثلان مخضرمان هما مقداد عبدالرضا وسامي قفطان شخصيتين رئيسيتين، أغلب أحداثه من قصص حقيقية حدثت لأهالي المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش الإرهابي، مع تركيز خاص على معاناة أهل الموصل، حيث يقدم مشاهد مؤثرة لتلك المعاناة بجرأة وصراحة. والمسلسل أول عمل للمخرج أمجد زنكنة أثبت فيه أنه مخرج واعد يُنتظر منه الكثير، ويشارك الممثلون حسن هادي، إيناس طالب، مهند هادي وسهير صلاح في أداء الأدوار الأخرى.
ويتناول مسلسل “جوري” للكاتب المصري أحمد عثمان وإخراج علي عباس قصة ذات إطار بوليسي تجري أحداثها، في أجواء تعود إلى سبعينات القرن الماضي، حول سلسلة جرائم قتل غامضة تقع في المسرح، وتفتح الباب على أحقاد وعداوات بين أعضاء فرقة مسرحية عراقية، ويتحول المسرح إلى مزار لضباط المباحث بشكل دوري نتيجة لهذه الأحداث.
بالرغم من تميز بعض هذه المسلسلات فنيا وجرأة المواضيع التي ميزت بعضها الآخر، فإن قسما كبيرا منها يسقط في الأدلجة
أما مسلسل “طيبة”، تأليف محمد حنش وإخراج إياد نحّاس، وأداء هند نزار، تميم التميمي، رياض شهيد، آسيا كمال، محمد هاشم وصبا إبراهيم، فيُسلط الضوء على شابة عراقية (طيبة) تنتمي إلى أسرة فقيرة، يعمل والدها محمود حارسا، حتمت عليها الظروف إعالة أسرتها. ولكونها متفوقة وطَموحة تتمكن من إقناع والدها بالموافقة على دخولها الجامعة. وهناك تصطدم بواقع مغاير، فتُخفي وضعها الاجتماعي الحقيقي وتدعي بأنها ابنة عائلة ثرية، وتقع في حب طالب اسمه عمار من أسرة ثرية، ويعيشان قصة جميلة تعكّر صفوها المؤامرات والخوف من انكشاف الحقيقة.
وللعام الثاني على التوالي يقدم المخرج سامر حكمت ومجموعة مؤلفين والممثلون إياد راضي، آلاء حسين، باسم الطيب، سعد خليفة، فوزية حسن ومازن محمد مصطفى جزءا ثانيا من مسلسل “كمامات وطن” بحلقات منفصلة، تتناول قضايا اجتماعية حول انتشار وباء كورونا، وانتفاضة أكتوبر التي شهدها العراق ابتداء من عام 2019 احتجاجا على تردّي الأوضاع الاقتصادية في البلد، وانتشار الفساد والبطالة في سياق نقدي ساخر.
وتدور أحداث مسلسل “أم بديلة”، وهو عراقي لبناني مشترك جرى تصويره في بيروت، تأليف ندى خليل، وإخراج ديفيد أوريان، وتمثيل هند كامل، عادل عباس، زهور علاء، ألكسندر ألوم، جمانة كريم وزيد الملاك، تدور حول عائلة الورقي الثرية التي تسعى للحفاظ على اسمها وثروتها، ويتزوج ابن الورقي من ابنة عمه ليتضح لاحقا أنها غير قادرة على الإنجاب، فتتخذ سيدة القصر قرارها لتحقيق حلم العائلة.
ويجمع مسلسل “قسطرة”، للكاتب حسين النجار والمخرج سوران علي، بين قضايا اجتماعية وسياسية كالفساد والواسطة والمحسوبية المنتشرة في العراق، في إطار درامي كوميدي. ويؤدي دور البطولة فيه الممثلون إحسان دعدوش، نسمة، شيماء رعد، رزاق أحمد، سعد خليفة وزهير محمد رشيد.
ويتناول مسلسل “العدلين”، للكاتب الشاب مصطفى الركابي والمخرج حسن حسني، انتفاضة أكتوبر وفساد الأحزاب، وحرب العصابات، والصراع بين الخير والشر من خلال تعاون قائد جماعة العدلين السرية المدعو أسد مع شخصية سديد على إنقاذ جماعته من الاغتيال المحتوم الذي قاده دودو، ووضع خطة محكمة للانتقام منه.
بين البناء والاستهلاك

بالرغم من تميز بعض هذه المسلسلات فنيا، وجرأة بعضها الآخر في مقاربة قضايا سياسية واجتماعية حساسة، فقد رأى عدد من المعنيين والمختصين بالدراما التلفزيونية أن قسما منها يداعب حياة الناس من خلال أدلجة معينة لكشف الظواهر السلبية في المجتمع بهدف التسقيط والإعلام المضاد للحكومة أو لجهات حزبية أو لشخصيات مسؤولة، أو عمل إسكيتشات كوميدية هي عبارة عن تهريج، وقد استهلكت أغلب المواضيع لاعتمادها على نفس الكتّاب والممثلين، ولا تغني في توجيه الإنسان إلى اتخاذ موقف يؤدي إلى التغيير في المستقبل.
قبل رمضان ومن كل عام تحاول القنوات أن تصنع حلبة مصارعة لها من خلال الدراما التلفزيونية لتستقطب المشاهدين وتمول هذه الأعمال أو المسلسلات من خلال الرعاية والإعلان أو من خلال إنتاج القناة، ولا بد من وجود هذه الأعمال لتبقى للقناة متابعة من قبل المشاهدين.
الصراع الدرامي وكأنه سيفضي إلى منتصر يثبت أنه قد أنجز وسحب بساط المشاهدة من الآخر، فتبدأ بعض الأعمال من صناعة التترات التي غالبا ما تكون أغنية راقصة لا يستطيع المشاهد مسك نفسه دون أن يهز أكتافه بل وخلفيته أيضا، ومن ثم يأتي المحتوى المتكون غالبا من مشاهد محددة لفكرة واحدة ولموضوع واحد في كل مشهد، وتبقى نمطية الممثل طيلة ثلاثين يوما بنفس المشهد مع تغير في الحوار والإخراج عبارة عن ثلاث إلى أربع كاميرات، واحدة متحركة وزاويتان وكاميرا عامة يعني “ألوحك ألوحك لو اتطير”.
المسلسلات العراقية مستهلكة لاعتمادها على نفس الكتّاب والممثلين، فلا تغني المشاهد ولا تؤدي إلى تغيير المستقبل
نجد أيضا نمط المسلسل المنفصل المتصل، وبدوره يدخل في ما طرحناه أعلاه من دراما للاستهلاك وحرق الوقت في القنوات وجذب المشاهد للمتابعة السطحية فقط.
ولننظر إلى المحيط الإقليمي العربي للعراق ولنشاهد ما يصنعون من دراما ولنرجع قليلا ونبدأ بالدراما المصرية التي أنتجت أجمل الأعمال التي شوهدت عربيا وكانت لها متابعة كبيرة، مثل خماسية الساقية الضحية والرحيل والقصر والسكرية وليالي الحلمية وعمر بن العاص وغيرها، وكلها تتميز بالتنوع مقارنة بما ينتج في العراق.
ولنلتفت إلى سوريا التي قدمت العديد من الأعمال الفارقة في تاريخ الدراما العربية مثل الفوارس والكواسر والزير سالم وباب الحارة وسوق الحريم، وحتى ما قدمته إيران من روائع في الأعمال التاريخية مثل مسلسل يوسف الصديق وغريب طوس وأعمال لا تعد ولا تحصى من التاريخ رغم أن بعضها حدث في العراق ولكنهم جيروا كل شيء لصالح بلدهم. ولم يبق سوى الخليج العربي والذي اشتغل أيضا على أعمال تاريخية حتى أنهم اجتروا جزءا من تاريخنا ونحن صامتون نقدم الوجبات السريعة من خلال قنوات مؤدلجة وأعمال واطئة الكلفة لا تثير غير الاستهلاك المحلي السريع والتي لا تؤشر على شيء عبر الذاكرة.
قدم العراقيون سابقا أعمالا هامة على غرار المحيط الإقليمي مثل مسلسلات المتنبي، الحداد لا يليق بالفرسان، وامعتصماه، الأيام العصيبة، عين المدينة، رياح الماضي وغيرها من الأعمال الباقية في الذاكرة والتي ستبقى.
ومما تقدم أشير إلى أن الدراما التلفزيونية نستطيع استثمارها في بناء الإنسان واقتصاديا إذا أحسنا الإنتاج والاختيار والعمل لتبقى هذه الأعمال تاريخا مسجلا تتوارثه الأجيال، وهذه ما تسمى بالدراما الحميدة التي نطمح إليها.