الخروج عن الإطار.. مغامرة غير محسوبة

المساحات الفنية المستقلة في القاهرة تواجه حصارا من الفنانين الرسميين.
الأحد 2020/07/26
محاولات لحصار الفن المعاصر

خلال العقود الثلاثة الماضية شهدت القاهرة تناميا ملحوظا للقاعات والمساحات الفنية الخاصة والمستقلة، وقد ساهم وجود هذه المساحات الفنية في كسر احتكار الدولة للنشاط الفني، ولو شكليا على الأقل، فقد ظل الجانب الأكبر من هذه القاعات والمساحات الجديدة معتمدا على أذواق النخبة المصرية، وتماهى في الكثير من الأحيان مع سياسات المؤسسة الرسمية وتبنيها لتوجهات بعينها في الممارسة الفنية. لكنه مؤخرا عاد ليوجه حصارا رسميا غير مسبوق.

إلى جانب المساحات الفنية الخاصة والمستقلة في مصر، التي اعتمدت في الغالب على منطق السوق، كانت هناك نوعية أخرى من المساحات الفنية سعت نحو استقلالية ذاتية بعيدا عن الأنماط الفنية السائدة للنخبة، ومتحررة في الوقت نفسه من سيطرة السياسات الرسمية. هذه الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها هذه المساحات مكنتها من استقطاب شريحة من الفنانين الشباب اعتمدت مشاريعهم الفنية على الممارسات المعاصرة وغير التقليدية.

شكلت تلك المساحات الحرة معا ما يمكن أن نسميه بحركة الفن الموازي في مصر. وبات من الملاحظ خلال العقدين الأخيرين ذلك التأثير الواضح لهذا النشاط الموازي لنشاط المؤسسة الثقافية الرسمية، والذي استطاع بإمكانات محدودة، مقارنة بالإمكانات الرسمية أن يخلق حركة فنية محلية مؤثرة، ومرتبطة في الوقت نفسه بحركة الفن العالمي.

محاصرة المستقلين

هذا السعي نحو الاستقلالية لم يرض الكثير من الفنانين والمثقفين المُرتبطين بالمؤسسة الرسمية، فكان مدعاة للهجوم على هذه المساحات المستقلة، استنادا إلى اتهامات مختلفة ومطاطة، كالقول إن هذه المؤسسات تهدف إلى تخريب الذوق العام، أو إنها كيانات مشبوهة مدعومة من الخارج. التُهمة الأخيرة تحديدا حملت تحريضا صريحا على هذه المؤسسات والمساحات على نحو مباشر، وكان لها انعكاس ملموس وواضح خلال السنوات التي أعقبت ثورة يناير، تمثل في عدد من الإجراءات الرسمية التي استهدفت أنشطة هذه المؤسسات.

تُعيدنا هذه الإجراءات إلى نقطة الصفر مرة أخرى، بعد سنوات من النشاط المثمر والجاد. ففي الفترة التي أعقبت ثورة يناير في 2011، وفي ظل أجواء مشحونة وتحريضية تجاه أي دعم خارجي تتلقاه الجمعيات أو المنظمات العاملة في مصر تسارعت إجراءات التضييق على هذه المؤسسات بحجج مختلفة.

أنشطة المؤسسات والقاعات الخاصة أضحت محط أنظار ومراقبة الدولة تماشيا مع سياسة الاستحواذ والسيطرة التي تبنتها أخيرا

وقد بلغ الأمر ذروته ليصل إلى حد التحرش الأمني ببعضها ومصادرة الأعمال المعروضة أو الإغلاق، ناهيك عن الزيارات الأمنية المتكررة لأماكن العرض والرصد الدائم لكل ما يُعرض أو ينظم من نشاط فني في تلك المؤسسات، وهو ما لم يكن يحدث من قبل.

أما الضربة القاصمة فقد تمثلت في قانون الجمعيات الأهلية الأخير والمثير للجدل، والذي وضع الكثير من العراقيل أمام المنح والدعم الخارجي الذي كانت تعتمد عليه أغلب هذه المؤسسات، وهو الأمر الذي قلص كثيرا من نشاطها وجعل من وجودها واستمرارها على المحك. وخلال الأسطر التالية سنستعرض نماذج من أهم هذه المؤسسات المستقلة ودورها الحيوي في إثراء الحركة الفنية في القاهرة خلال العقدين الأخيرين.

مؤسسات طموحة

من بين أبرز هذه المؤسسات تأتي مؤسسة مدرار للفنون المعاصرة، والتي تأسست قبل عشر سنوات بجهود فنانين شباب، ويقوم على إدارتها فريق عمل من الفنانين والمتخصصين. بفضل جهود هذا الفريق أصبحت مدرار نموذجا للمؤسسات المستقلة الفاعلة والمؤثرة، فهي تتيح الفرصة أمام شباب الفنانين للتجريب في وسائط مختلفة، وتفتح أمامهم أبواب التفاعل مع غيرهم من الفنانين داخل مصر وخارجها، عن طريق الفعاليات التي تنظمها، والتي يتجاوز نطاق بعضها الإطار المحلي إلى الدولي، ومن بينها مهرجان القاهرة الدولي للفيديو، الذي يشارك فيه فنانون من كافة أنحاء العالم.

تبرز مدرار ذلك الدور الفاعل الذي تمثله المؤسسات المستقلة المعنية بالفنون في دعم الحراك الثقافي والفني، وقدرتها على التنظيم والاستمرار، فمنذ ظهورها استطاعت بإمكانياتها الضئيلة التغلب على الكثير من العقبات التي واجهتها، ومثلت فضاء حرا للعديد من المواهب الشابة لعرض الأفكار والتجريب والتفاعل مع الراهن السياسي والاجتماعي والثقافي، عن طريق العديد من الممارسات الفنية غير التقليدية.

على واجهة المبنى الذي تحتل مدرار الطابق الثاني منه في وسط القاهرة، يستقبلك وجه فوتوغرافي ظهر كجزء من ديكور مسرحية “المتزوجون” وهي إحدى المسرحيات الكوميدية الشهيرة التي قدمت في سبعينات القرن الماضي. وجه الرجل المُسنّ ذو الملامح المميزة يبدو مألوفا وحميميا. تستدعي الصورة هنا على نحو ما تلك الأحاسيس والمشاعر والخبرات البصرية المُرتبطة برؤيتها الأولى. هكذا تفعل الصورة حين تتداخل تفاصيلها فى الذاكرة، فلا يتوقف تأثيرها عند حدود اللحظة الراهنة. تشي الصورة بنشاط هذه المساحة الصغيرة، هذا النشاط الفني الذي يعتمد في المقام الأول على الصورة بكافة تجلياتها، من فوتوغرافيا وفيديو وأفلام تحريك وغيرها.

مساحة أخرى ذات طابع مختلف وهي مساحة “آرت اللوا” المُخصصة لعرض وتقديم الفنون المعاصرة والتي أسسها الفنان المصري حمدي رضا عام 2006، وتحولت مع الوقت إلى واحدة من أهم المساحات الفنية العاملة بالعاصمة المصرية.

تحمل تجربة آرت اللوا مزيجا من الجرأة والدهشة، لكونها الوحيدة بين المساحات الفنية العاملة في القاهرة التي تقدم نشاطها من قلب العشوائيات. توجد القاعة في منطقة “أرض اللواء” ومن هنا استلهم مؤسسها الاسم “آرت اللوا” وتعد هذه المنطقة إحدى أكثر المناطق العشوائية المحيطة بالقاهرة ازدحاما بالسكان. تبدو القاعة وسط هذه العشوائيات كيانا مثيرا للدهشة.

 لا تقتصر هذه الدهشة على سكان الحي وحدهم، بل هي دهشة تنتاب كثيرا من المثقفين والمهتمين أيضا؛ فالمساحة الفنية الصغيرة التي أنشأها رضا تبدو من بعيد كأحد المحال التجارية، ولكن ما إن تقترب منها حتى تفاجأ بأن البضاعة المعروضة بها مُختلفة تماما؛ فثمة رسومات مُعلّقة على الجدران، وصور فوتوغرافية غير مألوفة تتبدل بين الحين والآخر، أو ربما يشد انتباهك أحد أعمال التجهيز في الفراغ التي تعتمد على التوليف بين عدة عناصر ووسائط فنية مختلفة.

تتبدل هذه المعروضات بين الحين والآخر، كما تحول المقهى الصغير القريب من القاعة إلى امتداد طبيعي لها، يلتقي فيه رواد القاعة من المصريين والأجانب بين أدخنة الشيشة وصخب الشارع الضيق. كل هذه الأمور كان من شأنها أن تثير انتباه الناس في هذا الحي الشعبي حين بدأ رضا نشاطه.

 قوبل نشاط القاعة في البداية بشيء من الريبة والتوجس، خاصة وهم يرون ذلك الحضور اللافت وغير المعتاد للأجانب في منطقة لم تعتد على تجول تلك السحن الأوروبية أو الأسيوية بين شوارعها، فهي كغيرها من المناطق العشوائية الأخرى، لا تحمل ميزة سياحية تجعلها على قائمة الزيارات المستمرة للأجانب على هذا النحو، إذ يعتمد معظم نشاطها عادة على تصدير الأيدي العاملة خارج محيطها. غير أن سكان الحي بدأوا في التعود شيئا فشيئا على مثل هذه الأمور، ساعد في ذلك كون رضا من سكان هذا الحي، يعرفونه جيدا، ولا يتحرجون من طرح تساؤلاتهم البسيطة حول هذا النشاط أو تلك الأعمال الغرائبية، من وجهة نظرهم.

الفن لا يمكن تنميطه
الفن لا يمكن تنميطه

استطاعت هذه المساحة الصغيرة مع مرور الوقت أن تفرض نوعا من الحضور على ساحة العمل الثقافي المصري؛ فلم تعد آرت اللوا مجرد قاعة عرض بل تحولت مع الوقت إلى مساحة فنية متكاملة تقدم نشاطاتها المتعددة لجمهور عريض من الفنانين وأهالي الحي أيضا. يشمل نشاط القاعة تنظيم ورشات وندوات ولقاءات ثقافية، بالإضافة إلى إتاحة الفرصة للتبادل الثقافي. ومن المؤسف أن هذه المساحة قد توقفت عن العمل قبل عامين تقريبا تزامنا مع صدور قانون الجمعيات الأهلية، والذي قلص كثيرا من الدعم الذي كانت تتلقاه.

بين المساحات الأخرى ذات التأثير الكبير تأتي مؤسسة “تاون هاوس” للفنون المعاصرة والتي بدأت نشاطها الفعلي في عام 1998 في مبنى قديم وسط ورشات تصليح السيارات في وسط القاهرة، ومثلت مع مرور الوقت ما يشبه الظاهرة. لا تقتصر عروض هذه المساحة على تقديم تجارب الفنانين المصريين وحدهم بل هي تستضيف أيضا عروضا كثيرة لفنانين أجانب، هذا خلافا للنشاطات الأخرى المُصاحبة من ورشات عمل وندوات ولقاءات. حتى أنها قد أضفت على المحيط المجاور لها نوعا من النشاط، الذي انعكس حتى على ذلك المقهى الملاصق لها والمعروف بـ”التكعيبة” والذي انتعش وعُرف بظهورها كأحد ملتقيات الفنانين والمثقفين والكتّاب، والذي استطاع أن يخطف الأضواء من أماكن أخرى مجاورة له تاريخيا.

 كان لمساحة تاون هاوس النصيب الأكبر من التحرشات والاتهامات، ربما لوجودها في قلب أكثر أماكن وسط القاهرة حيوية، واستقطابها لشرائح من الشباب المهتمين بهذه الأنواع الجديدة من الممارسة الفنية،

كما أن نشاطها لا يقتصر على الفنون البصرية وحدها بل يمتد إلى المسرح أيضا، بتخصيصها جزءا من مساحتها للعروض المسرحية التجريبية وهو “مسرح روابط” الذي يستقطب العديد من الفرق المسرحية المستقلة، وبات متنفسا للباحثين عن أنماط مختلفة للعروض المسرحية خارج الإطار التقليدي.

خلال العامين الأخيرين تم اقتطاع جزء كبير من المساحة التي تشغلها مؤسسة تاون هاوس داخل إحدى البنايات القديمة، وأصبحت اليوم محاصرة داخل مساحة أضيق، كما تقلص نشاطها إلى حد كبير خلال الأعوام القليلة الماضية، بعد أن توقف نشاط العروض المسرحية بها واقتصار عروضها الفنية على المشاركات المحلية.

ليس بعيدا عن تاون هاوس يستقر مركز الصورة المعاصرة، والذي لا يقل في تأثيره عن تاون هاوس، وهو يُعدّ أحد المراكز الفنية المهتمة تحديدا بالصورة الفوتوغرافية. بدأ هذا المركز نشاطه في نهاية التسعينات من القرن الماضي واستطاع هو الآخر اجتذاب شرائح مختلفة من المواهب الشابة. غير أن ما ميز مركز الصورة المعاصرة هو نشاطه الملحوظ في تنظيم عدد من المهرجانات الهامة كمهرجان “فوتوكايرو”، ومشروع “لو لم يكن هذا الجدار”.

تتنوع أهداف المركز بين الفن المعاصر والبرامج التعليمية التي تخاطب وتطور الممارسة والمشاركة والخطاب الفني. تأسس مركز الصورة على يد مجموعة من الفنانين المصريين الذين يشكلون مجلس أمنائه الحالي، وهم يؤمنون بالأدوار المُتعددة للصورة الفوتوغرافية. توفر مدرسة التصوير الفوتوغرافي التي يتبناها المركز دورات تدريبية وورشات عمل ومرافق تقنية واحترافية سعيا إلى تنمية الإمكانات المحلية الإقليمية لحدث بصري موسع ومؤثر.

 كما تحتضن البرامج الفنية المعاصرة في المركز جميع الوسائط، هادفة إلى إفراز سياقات نقدية لعدد من الممارسات من خلال المعارض وبرامج الإقامة والمشروعات الخاصة. ويظل العمل خارج المنطق المؤسسي في صميم التساؤلات التي يطرحها مركز الصورة المعاصرة على نحو عام. وتُترجم هذه التساؤلات لخلق بيئات تعزز الأفكار والممارسات والخطابات المتصلة بالفن المعاصر على أوسع نطاق.  يشمل نشاط المركز كذلك العمل على مجموعة متنوعة من وسائل التجريب على الصورة الفوتوغرافية، من المزج بين الصور والرسوم ووسائل الطباعة المختلفة، إلى الدمج بينها وبين النصوص المكتوبة، في محاولة للوصول كما يقول القائمون عليه إلى استكشاف العلاقة بين المرئي والمحجوب عن الرؤية، أو ما هو قابل للرؤية وما هو مخفي عنها.

الرقابة الرسمية

Thumbnail

لم يقتصر النشاط الفني المستقل خلال العقدين الأخيرين على المساحات الفنية في هيئتها المؤسسية فقط، بل شمل أيضا جهودا حثيثة لبث روح العمل الجماعي بين هذه المؤسسات المستقلة المعنية بالفن وغيرها من المؤسسات المستقلة الأخرى في مجالات مختلفة كالمسرح والسينما والرقص المعاصر، وغيرها من الفنون. وقد ترجمت هذه الجهود على هيئة مهرجانات أو أنشطة فنية جماعية تطمح إلى استغلال هذا الفراغ المعماري لوسط المدينة، كمهرجان الكوميكس، وفعاليات الفن ميدان، ومهرجان دي كاف، وهي فعاليات تضم نشاطات فنية مختلفة كالعروض المسرحية والسينمائية والموسيقية والغنائية، والمعارض الفنية، إضافة إلى اللقاءات والندوات وورشات العمل.  فقد اعتمد منظمو هذه المهرجانات وغيرها على الساحات الثقافية في منطقة وسط البلد، مستخدمين أماكن غير تقليدية أحيانا، كالأبنية التاريخية وقاعات العرض والأزقة الضيقة، كمواقع للعروض والأحداث الفنية. يتم النظر هنا إلى منطقة وسط البلد بالقاهرة كنقطة التقاء طبيعية للفنانين من الشرق والغرب، بما تحمله من أطرِزة معمارية خاصة، وحكايات تاريخية، وكبيئة ملهمة لهذا النوع من النشاط الثقافي المستقل أو الموازي، والذي يتجاوز دوره وتأثيره في الكثير من الأحيان تأثير المؤسسة الثقافية الرسمية.

ربما لهذا تحديدا باتت أنشطة هذه المؤسسات والقاعات محط أنظار ومراقبة الدولة، تماشيا مع سياسة الاستحواذ والسيطرة التي تبنتها أخيرا. وبعد أن كانت الدولة تسمح بهامش معقول لهذا النشاط أو غيره، أصبحت فكرة الخروج عن الإطار العام، أو التمرد على النمطية السائدة في الممارسة الفنية أشبه بمغامرة غير محسوبة النتائج.

فهل ستشهد السنوات القادمة عودة المؤسسة الرسمية في مصر لبسط سيطرتها على معظم النشاط الفني؟ يبدو أننا بالفعل مقبلون على شيء من هذا القبيل، غير أن هذه السيطرة والاحتكار للنشاط الفني سيكون بلا شك محفوفا بالمخاطر على مستقبل الحركة الفنية في مصر، إذا ما وضعنا في الاعتبار ما يشوب هيكل هذه المؤسسة من خلل، وما تتسم به آلية عملها من تكلّس، كنتيجة طبيعية للبيروقراطية الحكومية والمحسوبية، وهو ما قد يؤشر إلى مرحلة من الركود والتراجع.

14