الحكومة المصرية للمنصات الإخبارية: نريد حرية منضبطة

ضاق صدر الحكومة المصرية سريعا بمسحة الحريات التي ظهرت في محتوى ومعالجات مواقع ومنصات إخبارية ظهرت حديثا على الساحة الإعلامية في مصر، فبعد اعتقال الصحافي كريم أسعد الذي يعمل في منصة “متصدقش”، ها هو موقع “ذات مصر” يعلن الإغلاق “للصيانة”، وقد جاء الإغلاق بعد الضجة التي أحدثها حوار مع وزير التجارة والصناعة الأسبق منير فخري عبدالنور، وجه فيه انتقادات حادة للسلطة.
القاهرة - يوحي المشهد الإعلامي الراهن في مصر بأن ثمة تغيرات، صعودا أو هبوطا، في رؤية الحكومة لدور وسائل الإعلام حاليا، على مستوى التغطيات الصحفية لبعض القضايا الحيوية وإجراء الحوارات مع شخصيات فاعلة في المجتمع دفعت القائمين على موقع “ذات مصر” إلى إغلاقه تلقائيا، بما أثار تساؤلات عدة حول الظروف التي أدت بالقائمين على الموقع إلى هذه الخطوة الغريبة.
تشير شواهد عدة إلى أن الحكومة المصرية لم تعد تمانع في وجود مساحة من الحريات للعمل الإعلامي، شريطة أن يكون ذلك وفقا لسياسة تحريرية لا تقدم خدمة مجانية لجهات تعتبر أن لها خصومة مع الدولة.
وألقت أجهزة الأمن القبض على الصحافي كريم أسعد الذي يعمل في منصة “متصدقش”، التي تقدم محتوى صحافيا جيدا على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، بعد تناول قضية حساسة مرتبطة بضبط دولة زامبيا لطائرة قادمة من القاهرة وعليها كميات من الذهب وملايين من الدولارات، وجرى كشف أسماء المتهمين فيها وهوياتهم، وسرعان ما تم الإفراج عن أسعد بعدما تبين لجهة التحقيق أن المنصة تعمل بشكل موضوعي، وتواصل المنصة عملها بقدر وافر من الحذر والتريث.
وعلى النقيض من ذلك امتعضت الحكومة من حوارات أجراها موقع “ذات مصر” الذي حاول استثمار الانفتاح النسبي في الحريات العامة وأراد التغريد خارج السرب بطريقة أوحت لدوائر رسمية بأن هناك شبهات حول أهدافه، خاصة أن المحتوى المقدم وطريقة عرض المضمون السياسي للجمهور والتركيز على قضايا حساسة تصب في خدمة جماعة الإخوان وتتعارض مع الخط الذي ترسمه الحكومة للحريات الإعلامية.
وبث “ذات مصر” قبل أيام حوارا مع وزير التجارة والصناعة الأسبق منير فخري عبدالنور حوى تصريحات جريئة حول الانتخابات الرئاسية، وقال إنها تُدار عبر “أجهزة أمنية” تبحث عن “كومبارس” لينافس الرئيس عبدالفتاح السيسي.
بدأت المشكلة من حذف الموقع للحوار سريعا، بما فتح الباب لتكهنات متباينة، أبرزها أن الحكومة طلبت من القائمين على الموقع ذلك، لأن الحذف تكرر في حوار سابق أجراه الموقع نفسه مع الصحافي نصر القفاص وجه فيه انتقادات لاذعة للسلطات.
كان حوار عبدالنور مع “ذات مصر” هو الثالث من نوعه لشخصيات لديها ملامح معارضة للنظام المصري، وتتحدث بلهجة حادة، وتتطرق إلى قضايا مثيرة في توقيت سياسي تراه السلطات “حساسا ودقيقا ولا يتطلب المزيد من تسخين الرأي العام”، لكن الموقع دأب على مواصلة هذه السياسة التحريرية ومن دون أن يقدم محتوى ينال من المعارضة، وبدا كأنه يتبنى وجهة نظر أحادية ضد النظام المصري.
وفوجئ الجمهور بتوقف الموقع عن العمل أخيرا مستخدما عبارة “مغلق للصيانة”، أي أنه ليس محجوبا من جهة أمنية، لكن بتوجه من إدارته، ما يفسر شعور القائمين عليه بأن هناك جهات رسمية غاضبة وحجبه بقرار داخلي محاولة لإرضائها أو تصحيح المسار بما يتماشى مع الخط الرسمي العام لوسائل الإعلام.
وقال نقيب الصحافيين الأسبق يحيى قلاش إن الحكومة مطالبة بعدم التعامل مع الحرية الإعلامية كمنحة تعطيها في وقت معين وتمنعها لأسباب سياسية، وأي حكومة رشيدة إذا لم تجد المعارضة الإعلامية عليها أن تخلقها ولا تمتعض منها، لافتا إلى أن “فرض حدود على الحريات لا يتوافق مع فتح المناخ العام، والرأي يُصحح بالرأي”.
وأضاف قلاش في تصريحات لـ”العرب” أنه “ليس معقولا رهن الحريات الإعلامية بالظرف السياسي، لأن الحريات توسع بصيرة صاحب القرار وتحذره من المخاطر ويصعب تصنيف المعارضين على أنهم متآمرون، وطالما هناك مؤسسات إعلامية تتمتع بالاصطفاف خلف الحكومة لا مانع من وجود أخرى لديها صبغة معارضة”.
مواقع صحفية تتبنى سياسة تحريرية معارضة انضمت للمشهد الإعلامي أخيرا دون أن تتعرض للحجب أو التضييق عليها
ولم تتحرك نقابة الصحافيين تجاه الحجب الداخلي لـ”ذات مصر” كونها لم تتلق شكوى رسمية بتعرض الموقع للحجب، مع أن النقيب خالد البلشي اعتاد التدخل في وقائع شبيهة للتواصل مع الأجهزة المعنية من أجل الإفراج عن صحافيين سجناء والمطالبة برفع الحجب عن مواقع متعددة، لكن هذه المرة التزم الصمت لأن الحكومة لم تتورط في غلق الموقع مباشرة.
ويرى مراقبون للمشهد الإعلامي أن النظام المصري على قناعة بوجود أصوات مختلفة ومنابر إعلامية تعمل بمهنية، فهو لديه قنوات وصحف تحقق التوازن، إلا أنه يرفض توظيف مساحة الانفتاح لتأليب الرأي العام، بما يخدم من يراهم أصحاب أجندات مشكوك فيها.
ويستدل هؤلاء المراقبون على ذلك بأن المنصات الرقمية، مثل “متصدقش” و”صحيح مصر” و”الموقف المصري”، اعتادت إحراج مسؤولين وإظهار خطأ في تصريحاتهم، وممارسة الصحافة من خلال تدقيق المعلومات وتفسير القرارات والبحث عن خلفيات لقضايا حساسة، لكن لم تتدخل أي جهة للضغط على القائمين عليها أو ترهيب العاملين فيها أو حتى معاقبتهم، لأنها تنتقد بمهنية وغير مرتبطة بحسابات سياسية خفية.
وانضمت مواقع صحفية تتبنى سياسة تحريرية معارضة للمشهد الإعلامي أخيرا دون أن تتعرض للحجب أو التضييق عليها، مثل “بوابة الحرية” و”حرف 24″ و”الموقع” و”مصر الآن”، ولا تزال تقدم ألوانا صحفية متطورة وتعتمد خطا تحريريا جريئا.
جاءت المشكلة مع موقع “ذات مصر” من أن سياسته التحريرية بدت مناهضة للنظام الحاكم، وتباهي بعض العاملين في الموقع أحيانا بنقل مواقع وقنوات يوتيوب وبرامج تلفزيونية إخوانية لتصريحات وحوارات نشرت على لسان معارضين للسلطة.
وكشف مصدر إعلامي لـ”العرب” أن غلق “ذات مصر” يحمل في جوهره ترضية للنظام المصري وتبرئة صريحة من تعاونه مع الإخوان، لكن هناك شواهد على اقتراب رئيس مجلس الإدارة صلاح الدين حسن فكريا من الجماعة، وكتب منشورات على حسابه الشخصي في فيسبوك تحدث فيها عن الإخوان بشكل إيجابي.
ومعروف عن صلاح الدين حسن في الوسط الصحفي أنه باحث في شؤون الحركات الإسلامية، ومن أقدم الباحثين في هذا الملف، وظهر كثيرا في وسائل الإعلام بهذه الصفة، ومنذ أسس “ذات مصر” وهو يناهض حركات الإسلام السياسي وينتقد التطرف عبر دراسات وقصص صحفية متنوعة، لكن البعض فوجئ بتوقف المشروع البحثي الخاص به ثم تحول الموقع إلى ما يشبه المنبر الإعلامي – السياسي.
ويعبر الموقف الراهن عن أن النظام المصري له خط أحمر لم يتخل عنه بعد في الممارسات الإعلامية وهو أن تكون السياسة التحريرية بعيدة عن أهداف جماعة الإخوان شكلا وموضوعا، أو يتحول أي منبر صحفي إلى حزب يستضيف معارضين، ولا تمانع الحكومة في النقد الموضوعي وتحقيق الزخم في الفضاء العام بلا انحراف وتصبح محرضة وتنتقي ما تنشره بما يجعله يسير في خط معارض فقط.
وظلت الحكومة المصرية متخوفة من الحريات الإعلامية في السنوات الماضية، ومع تدشينها الحوار الوطني منذ أكثر من عام ومشاركة المعارضة فيه وجدت أن الحرية البناءة والمنضبطة لن تجلب مخاطر سياسية، والفيتو الوحيد عليها أن تتحول إلى وسيلة للابتزاز والتحريض ورعاية وجهة نظر معارضة.