الحكومة المصرية تلجأ إلى الحزم لوقف انفلات صناع المحتوى

اتسع نطاق الأزمات التي يصدرها بعض المؤثرين على شبكات التواصل مع الترويج لهم في وسائل الإعلام التقليدي في مخالفة للمعايير المهنية والأخلاقية، فوجدت الحكومة المصرية أن الحزم هو الحل الوحيد لوضع حد للمحتوى السيء.
القاهرة - عكس قرار النيابة العامة في مصر بإحالة أحد عشر متهما إلى المحاكمة بتهمة نشر أخبار ومعلومات مغلوطة عن قضية مقتل فتاة كانت حديث الرأي العام مؤخرا، إلى أي درجة ضاقت الحكومة وأجهزتها ذرعا بالمحتوى الفوضوي على منصات التواصل الاجتماعي، ويقدمه مؤثرون بغرض زيادة المشاهدات.
ويستثمر البعض من مقدمي المحتوى التفاعلي على المنصات المختلفة الحوادث وجنازات المشاهير والقضايا التي تشغل الرأي العام، للتركيز عليها وادعاء معرفة الحقيقة لجذب أكبر شريحة من الجمهور، بما يحقق لهم أرباحا مالية، وهو ما قررت معه الحكومة التعامل بصرامة كبداية للمزيد من ضبط المحتوى الرقمي.
وبدت المؤسسات المصرية المختلفة أكثر امتعاضا من صناع المحتوى الذين باتوا ينشطون باستغلال الشائعات المرتبطة بملفات جماهيرية، بالتوازي مع ضعف وسائل الإعلام التقليدية التي صارت عاجزة عن التصدي لما يثار عبر الشبكات الاجتماعية من معلومات وتفسيرات مغلوطة، أصبح تفنيدها بحاجة إلى معجزات.
وارتبطت الواقعة التي أحيل بسببها أحد عشر متهما إلى المحاكمة بمقتل فتاة جامعية قيل إنها تعرضت للابتزاز والتشهير من زملاء لها في الجامعة، بعدها امتلأت منصات التواصل بتفسيرات أوحت للرأي العام بأن أصحابها يمتلكون معلومات أن الفتاة تعرضت للتسمم وقتلت عمدا.
وتم التلويح بوجود طلاب متورطين في الواقعة وقتها من أبناء عائلات مهمة ولا أحد يستطيع الوقوف في وجههم، ما أثار غضبا مجتمعيا واسعا، لكن النيابة العامة فنّدت الادعاءات وأقرت بانتحار الفتاة بسبب ضغوط نفسية تعرضت لها من زملاء لها، لكن شريحة من المواطنين صدّقوا مقدمي المحتوى.
واتسع نطاق الأزمات التي أصبح يصدرها بعض المؤثرين على شبكات التواصل مع تعاطي الإعلام التقليدي معهم كأنهم مصادر أخبار تجلب المزيد من المشاهدات، في حين أن وسائل الإعلام المطبوعة والرقمية والمرئية لو تجاهلت هؤلاء لما انتشر محتواها ووصل إلى شريحة كبيرة من الناس بالمخالفة للمعايير المهنية والأخلاقية.
ويرى مراقبون أن الحزم الحكومي في مواجهة انفلات المحتوى الرقمي على مواقع التواصل لن يكون ذات جدوى طالما أن بعض وسائل الإعلام تنساق خلف ما يبث وينشر دون التحري عن مصداقيته، لكن إذا كان ذلك سيجلب المزيد من المتابعين فلا مانع، وهي أزمة تتحمل جزءا منها هيئات الصحافة والإعلام المسؤولة عن الضبط.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن صانع المحتوى كان يمكن أن يصبح أحد مصادر المعرفة للإعلام التقليدي لو كانت هذه الصناعة قائمة على دارسي الصحافة والإعلام، أي يتم تقديم المحتوى من خلال متخصصين يمتلكون قدرا من المهنية، لكن في الوقت الراهن أصبح عدد المؤثرين كبيرا، وينشطون بلا تخصص أو فهم أو مسؤولية.
وقال الخبير في شؤون الإعلام الرقمي خالد برماوي لـ“العرب” إن الصرامة في مواجهة الاستخدام السيء لشبكات التواصل مطلوبة، لأن هناك شريحة كبيرة من صناع المحتوى اتجهت إلى وسائل التواصل بحثا عن المال والشهرة، في ظل وجود شريحة معتبرة تبحث عن تقديم محتويات جادة ومفيدة وتوعوية.
وجزء من المشكلة أن الجهات الحكومية والهيئات المعنية بإدارة المشهد الإعلامي تستهدف محاسبة صناع المحتوى على ما ارتكبوه من أخطاء مهنية وعدم مساءلة أي وسيلة إعلامية تقليدية نقلت عنهم أو شاركت في نشر المضامين التي تتناقض مع ميثاق الشرف الإعلامي، ما يكرس الفوضى ويوسع دائرة الشائعات.
ولم يعد يحتاج صانع المحتوى في مصر سوى إلى هاتف ذكي مع مواكبة ما يعرف بـ“الترند” ليكون مشهورا ويحقق مكاسب مالية من وراء زيادة المشاهدات، وهي أزمة معقدة وضعت الحكومة في مأزق، لأنها بحاجة إلى مواجهة سيل الأكاذيب على الشبكات الاجتماعية، والحد من تراجع الإعلام التقليدي لحساب نشاط المؤثرين رقميا.
وتبدو مساعي الحكومة للسيطرة على فوضى المحتوى المقدم على منصات التواصل بلا جدوى، لأن المحاكم تكاد تكون ممتلئة بقضايا فتيات في اتهامات أخلاقية ومخالفة القوانين والإساءة لقيم المجتمع بسبب المحتوى الشاذ، لكن ذلك لم يمنع شريحة كبيرة من الانخراط في السلوك نفسه بلا خوف من الصرامة الحكومية.
وباتت صناعة المحتوى الرقمي في مصر مهنة من لا مهنة له، فأي شخص يمكنه أن يمتلك حسابا على التطبيقات الاجتماعية وقناة على يوتيوب ليقدم ما يشاء، ويركز على القضايا التي تشغل بال الناس، ويشرح ويفسر بالطريقة التي تجذب إليه المتابعين، ليتربح المال بأقل جهد.
أمام فقر الخيال وضعف الإبداع وعدم التخصص اندفع البعض من مشاهير الشبكات الاجتماعية إلى خلق قصص خيالية وادعاء امتلاك المعلومات لتحقيق الانتشار وكسب المال، بينما لا ينتشر المحتوى التوعوي والتعليمي بنفس القدر، لأنه يتعامل بجدية مع احتياجات الجمهور، ما دفع الكثير من المواطنين إلى الاعتماد على “تفاهات”.
◙ صناعة المحتوى الرقمي في مصر باتت مهنة من لا مهنة له، فأي شخص يمكنه أن يمتلك حسابا على التطبيقات الاجتماعية وقناة على يوتيوب ليقدم ما يشاء
ومن مظاهر فوضى المحتوى الرقمي استخدام خطاب يحض على الكراهية والتمييز والعنصرية ونشر الشائعات والتضليل عبر استخدام التقنيات الحديثة في فبركة صور وفيديوهات والتعرض للحياة الخاصة للناس واقتحام خصوصية الأفراد والسب والقذف والتنمر ونشر الأفكار الشاذة بحثا عن “ترند” وهمي وشهرة وأرباح ضخمة.
وقليلا ما يستخدم مجلس تنظيم الإعلام صلاحياته القانونية في مطاردة المؤثرين الفوضويين، مع أنه يحق له تتبع أي حساب شخصي يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف أو أكثر، وفحص محتواه وما إذا كان يروج لحقائق أم أكاذيب، لكن لا يزال التطبيق الخاص برقابة الشبكات الاجتماعية يتم في نطاق ضيق ويرتبط بإثارة الجدل فقط.
وصدر قانون منذ نحو خمس سنوات، منح مجلس تنظيم الإعلام سلطة توقيع عقوبة الحجب على الصفحات الشخصية حال قيام الحساب بنشر أو بث أخبار كاذبة أو ما يحضّ على مخالفة القانون أو يدعو إلى العنف والكراهية، أو ينطوي على تمييز بين المواطنين، أو يدعو إلى العنصرية والتعصب، أو يتضمن طعنا في أعراض الأفراد أو سبا أو قذفا لهم.
ويفتقر مجلس الإعلام إلى لجان رصد ومتابعة لصانعي المحتوى عبر منصات وتطبيقات التواصل الخاضعة لأحكام القانون المنوط بالمجلس تطبيق نصوصه، رغم المطالبات المتكررة باستحداث هذه اللجان وإنشاء مركز لتدريب صناع المحتوى على الاستخدام الآمن والهادف لتلك المنصات بما لا يخالف الضوابط والمعايير المهنية.
وأوضح خالد برماوي لـ"العرب" أن صناعة المحتوى على شبكات التواصل جزء من التطور الرقمي، لكن المشكلة في وجود شريحة من جمهور الشبكات الاجتماعية تتعامل مع المؤثرين باعتبارهم يقدمون إعلاما حقيقيا، دون انتقائية أو تمييز بين المصداقية وعدم المهنية، ما يتطلب المزيد من الوعي من جانب من يتلقون المحتوى.
وتزداد المشكلة عندما لا يدرك الجمهور المستهدف كيفية استخدام الشبكات الاجتماعية بما ينسجم مع القانون ولا يخل بالتقاليد، وهو أمر بات مزعجا لجهات رسمية أحكمت سيطرتها على الإعلام التقليدي، لكنها لم تستطع تكرار ذلك مع مواقع التواصل التي أصبحت مقياسا لتوجهات الرأي العام في قضايا عديدة.