الحكومة المصرية تستفز المصريين بالسير عكس اتجاه التقشف

تطوير حديقة الحيوان يثير شكوكا جديدة حول السياسات الاقتصادية للحكومة.
الاثنين 2023/01/09
حلقات غامضة في أداء الحكومة

القاهرة- أعادت الحكومة المصرية إثارة الجدل المرتبط بتحديد خارطة الأولويات بالإعلان عن تطوير حديقة الحيوان العريقة في الجيزة، المتاخمة للقاهرة، بالتزامن مع دعوة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي جميع المؤسسات الحكومية إلى التقشف وترشيد الإنفاق للحد الأدنى جراء الأزمة الاقتصادية الحادة التي تضرب البلاد.

وتبدو الحكومة وكأنها تسير عكس اتجاه قراراتها، ما يثير استفزاز المصريين الذين تطالبهم دائما بالصبر وتحمل الأزمة وتبنّي إجراءات تقشفية، في حين يتم إنفاق مبالغ مالية ضخمة على قطاعات ترفيهية يمكن تأجيلها إلى حين عبور الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، وهي إشكالية تكرّس المزيد من التخبط في أولويات الحكومة.

ولا تجد شريحة كبيرة من المصريين تعاني من الغلاء وارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية تفسيرا واضحا لإصرار الحكومة على المضي في الإنفاق على مشروعات تفتقر إلى العائد الحقيقي على الناس، وتدخل في باب تحسين الصورة الجمالية.

سعيد صادق: المجتمع المصري لا يعارض التطوير ولا يتحدى الحكومة، لكنه يبحث عن الشفافية
سعيد صادق: المجتمع المصري لا يعارض التطوير ولا يتحدى الحكومة، لكنه يبحث عن الشفافية

وتتعرض الحكومة المصرية كل يوم لانتقادات حادة دون أن تتراجع أو تعطي مبررات منطقية لتوجهاتها، حيث تصر على مواصلة العمل في مشروعات جرى التخطيط لها قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، وتعلن عن مشروعات جديدة بحجة التطوير، ولا تنظر بجدية إلى ترتيب الأولويات التي تتوافق مع طبيعة الأزمة الراهنة.

ويعد الإعلان عن غلق حديقة الحيوان لمدة عام لتطويرها واحدة من الحلقات الغامضة في أداء الحكومة، فلم يتم الإعلان رسميا عن الهدف من التطوير والجهات المسؤولة عنه وعلاقتها بهذه المجال بطريقة تفصيلية، وكل التحركات التي قامت بها بذريعة التجميل قضت على مساحات خضراء كبيرة في أماكن مشابهة، وهذه حديقة تحوي أشجارا نادرة وحيوانات جرى جلبها من دول مختلفة تم الحفاظ على سلالاتها.

وتسبب الارتباك في تحول أصوات اعتادت تأييد النظام المصري إلى أصوات تبدو معارضة له، على غرار الإعلامي عمرو أديب الذي انتقد قرار تطوير حديقة الحيوان وسط ظروف اقتصادية سيئة الجمعة، واصفا القرار بأنه “غير مفهوم وفي توقيت مريب”، مضيفا “تطوير الحديقة يمكن أن ينتظر، أعطوني مثالا واحدا على أنكم متقشفون وأنا سأتحمل الألم، أو قولوا لنا معكم أموال وطوّروا الحديقة كما تشاؤون”.

ويرتبط التذمر من توجه الحكومة نحو تطوير حديقة الحيوان بشقين، الأول أن الظروف الاقتصادية للدولة لا تتحمل المزيد من الإنفاق المالي الضخم على كيان ترفيهي، والثاني أن الحديقة بعد التطوير لن يدخلها البسطاء لارتفاع تذاكر زيارتها.

وافتتحت حديقة الحيوان بالجيزة عام 1891 في عهد الخديوي توفيق، ابن الخديوي إسماعيل الذي أمر بتشييدها، ومع الوقت أصبحت هي الأكبر في الشرق الأوسط، والثالثة عالميا من حيث المساحة والأقدمية، وأولى حدائق الحيوانات في أفريقيا، وتحوي العديد من القطع الخشبية الأثرية والفنية من عصور مختلفة، وبها أشجار تعود إلى تاريخ إنشائها.

◙ الحكومة المصرية تتعرض كل يوم لانتقادات حادة دون أن تتراجع أو تعطي مبررات منطقية لتوجهاتها

وقررت الحكومة المصرية الاستعانة بالقطاع الخاص في تطوير منشآت حديقة الحيوان وإدارتها، إلى جانب حديقة الأورمان المجاورة لها، بذريعة أن الروتين الإداري للهيئات التابعة لوزارة الزراعة (المالكة للحديقتين) تسبب في تدهور أوضاعهما، وصار الأمر في حاجة إلى رؤية استثمارية على مستوى التخطيط والإدارة والتطوير.

وقد تكون هذه الرؤية صائبة، غير أن الطريقة التي أعلنت بها بدت غريبة، وطرح التكتم الذي يحيط بها علامات استفهام كثيرة لا تزال تبحث عن إجابات.

وأصبح نهج الخصخصة بالنسبة إلى الحكومة في مصر ملاذا للهروب من أعباء الهيئات العامة التي تتعرض إلى المزيد من الخسائر مقابل ندرة العوائد، لكن المعضلة في عدم تفريقها بين الكيانات التابعة لها كدولة ولها علاقة وجدانية بالشعب، مثل حديقة الحيوان أو قناة السويس، لذلك تتعرض إلى أزمات سياسية متعددة جراء تراجع منسوب الثقة.

ويشعر عدد كبير من المصريين بوجود ما يشبه “الخديعة” الحكومية عقب فتح ملف تطوير حديقة الحيوان وسط الأزمة الاقتصادية الراهنة وبصورة مفاجئة، وانتشار معلومات لم تنفها الجهات الرسمية عن الاستعانة بمستثمرين أجانب لإدارة الحديقة وتطويرها، ما يعني أنها قد تكون ضمن المؤسسات المطروحة للخصخصة.

وهناك شرحة كبيرة في مصر تتعامل مع القرارات الخاصة بالهيئات العامة بريبة، ويعتقد المنتمون إليها أن الحكومة تبدو “غير أمينة” على أصول الدولة التي تفوق قيمتها الرمزية نظيرتها المادية، ولم تجرؤ أيّ حكومة سابقة على الاقتراب منها.

عمرو أديب: تطوير الحديقة يمكن أن ينتظر، أعطوني مثالا واحدا على أنكم متقشفون
عمرو أديب: تطوير الحديقة يمكن أن ينتظر، أعطوني مثالا واحدا على أنكم متقشفون

وفسّر سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة التذمر المجتمعي من توجهات الحكومة حيال تطوير حديقة الحيوان بأنه “مرتبط بالتوقيت بالغ الخطورة، فكل مسؤول يدعو الناس إلى التقشف ثم تتحدث الحكومة عن تطوير كيان ترفيهي متهالك في ذروة أزمة مالية طاحنة تواجه صعوبة في الخروج منها”.

وأضاف لـ”العرب” أن المجتمع المصري لا يعارض التطوير ولا يتحدى الحكومة، لكنه يبحث عن الشفافية والمصداقية والوضوح، فالحكومة غير صريحة في أوقات كثيرة، فلم تهدأ أزمة إنشاء صندوق خاص بهيئة قناة السويس وشائعات حول بيعها ليطفو حديث حديقة الحيوان الغامض.

ويتعلق جزء من الغضب بإسناد مهمة إدارة وتطوير حديقة الحيوان إلى وزارة الإنتاج الحربي من خلال شركة الإنتاج الحربى للمشروعات والاستشارات الهندسية، أي أنها ستكون تابعة للجيش، بعد أن كانت تابعة لوزارة الزراعة.

وأكد اللواء ماجد السرتي رئيس مجلس إدارة شركة الإنتاج الحربى للمشروعات والاستشارات الهندسية، في تصريحات إعلامية، أن هناك “تحالفا مع شركات عالمية متخصّصة لتطوير الحديقة، والحصول على حق إدارتها بنظام حق الانتفاع لمدة 25 عاما”، ولم يفصح عن هوية الجهات المشاركة في التطوير مع وزارة الإنتاج الحربي.

وأشار سعيد صادق إلى أن ما تفعله الحكومة في ملف حديقة الحيوان والتعامل مع الهيئات التابعة للقطاع العام عموما يثير الشكوك حول سياساتها الاقتصادية، فهي لا تكترث بغضب الناس، ولا تعترف بوجود فساد إداري، وأسهل طريقة عندها أن تستعين بالقطاع الخاص أو تقوم بالبيع “فما علاقة وزارة الإنتاج الحربي بحديقة كلها حيوانات وطيور وأشجار، فهذا الخلل جعل الناس تقلق من السياسات الاقتصادية”.

ويعتقد معارضون للخطوة أنه طالما تعاملت الحكومة مع تطوير حديقة الحيوان على أنها تريد إعادة الاعتبار لصورة مصر الحقيقية سوف تظل هناك أزمة فهم لطبيعة المشكلات التي تواجه الدولة بمختلف مؤسساتها، لأن التحديات الراهنة أكبر من مجرد اختزالها في صورة حديقة تعاني من الإهمال والتردي منذ زمن طويل.

1