الحكومة المصرية تتولى مهمة تجديد الخطاب الديني بدلا من المؤسسات الدينية

مناهج تعليمية لتكريس التعايش بين المسلمين والمسيحيين.
الجمعة 2024/10/18
وزارة التعليم تخطط لمنهج ديني موحد بتعاليم وقيم مشتركة

القاهرة- حسمت الحكومة المصرية أمرها بشأن تدريس منهج ديني موحد يضم القيم الأساسية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، على أمل نشر ثقافة التسامح في المجتمع من خلال المؤسسات التعليمية والمناهج الدراسية، في خطوة استفزت المتشددين من المسلمين والمسيحيين، بشكل عكس حجم الريبة والتشكك في أي خطوة تستهدف تقريب المسافات بين أصحاب العقائد.

وأكد وزير التربية والتعليم المصري محمد عبداللطيف أن الاتجاه حاليا لإعداد منهج ديني يتضمن القيم الأساسية للديانات، حيث يكون تدريس مادة التربية الدينية بمفهوم أخلاقي بحت، باعتبار أن الأخلاق واحدة في كل الأديان، وسيكون الامتحان في ذلك المنهج موحدا بين جميع الطلاب، دون النظر إلى طبيعة ديانتهم، بحيث ينشأون على قيم نبيلة تكرس المحبة والسلام والتعايش.

وتظهر الخطوة حجم التشدد ضد الاقتراب من الهوية الدينية لأغلبية السكان (المسلمين)، بينما كان الدعم الأكبر لها من شريحة الشباب الذين رحب الكثير منهم بالتقارب مع الديانات دون تصنيف العلاقات الاجتماعية وفق الانتماء العقائدي، وهي فئة تعوّل عليها الحكومة لنشر ثقافة التسامح بعيدا عن تشدد أجيال قديمة لن تتغير.

محمد أبوحامد: وجود منهج ديني قيمي واحد يؤسس لمجتمع عصري متحضر وواع
محمد أبوحامد: وجود منهج ديني قيمي واحد يؤسس لمجتمع عصري متحضر وواع

وتشير بعض الشواهد إلى أن المجتمع المصري يعاني من فجوة واسعة بين الأجيال القديمة والجديدة حول النظرة إلى الدين؛ فنسبة كبيرة من الآباء والأجداد، الذين أخذوا ثقافاتهم الحياتية والدينية من الجماعات الإسلامية، تنظر بريبة لأيّ تجانس بزعم أنه يدمر الهوية الوطنية. أما الشباب فهم الفئة الأكثر شغفا بالتلاحم من دون تفرقة.

وأمام فشل المؤسسات الدينية في إنتاج خطاب معتدل ينبذ التطرف ويكرس التعايش، وجدت الحكومة نفسها مضطرة إلى اتخاذ خطوة جريئة نحو قبول الآخر ووقف التمييز والعنصرية بين أصحاب العقائد بوضع منهج دراسي عنوانه المواطنة والقيم المشتركة، لبناء مجتمع جديد فكريا وثقافيا، لا يفرق بين الناس على أساس العقيدة.

وتوحي الخطوة بأن الحكومة عقدت العزم على أن تتولى مهمة تجديد الفكر والخطاب الديني المرتبط بالتسامح، بدلا من المؤسسات الدينية التقليدية (مثل الأزهر)، بحيث يتم البدء من المدرسة والمناهج التعليمية، ويصبح التعليم نواة لعلاقات أكثر إنسانية، طالما أن التيارات الإسلامية المتطرفة اعتادت استثمار الثقافات القديمة وارتفاع منسوب الأمية المجتمعية لبث الفرقة.

وتدرك الحكومة المصرية أن أي محاولة لتغيير ثقافات الكبار داخل المجتمع بشأن قضية التعايش على أساس إنساني بين المسلمين والمسيحيين قد تكون صعبة وربما مستحيلة، لذلك اتجهت الدفة إلى الجيل الصاعد من خلال البيئة المدرسية التي تحتضن أكثر من 25 مليون طالب، لتبدأ من خلالهم إعادة التعريف بالانتماء العقائدي، وكسر الجمود بين المسلمين والمسيحيين.

ويدافع المؤيدون للخطوة بأن تشكك الكثير من المسلمين والمسيحيين تجاه ديانة كل طرف يتأسس على جهل الناس ما تتضمنه كل ديانة من قيم وتعاليم إنسانية، لكن قلة قليلة هي التي تعرف ذلك، أما الأغلبية من الطرفين فتعتقد أن عقيدتها مثالية، وما يخالفها هو نقيضها، وهناك من يعتقد أن أصحاب الديانة الأخرى دخلاء على المجتمع.

وحسب طبيعة المناهج الدينية المطبقة في مصر منذ عقود طويلة، لا يعرف أغلب المسلمين شيئا عن القيم والتعاليم الإنسانية النبيلة في المسيحية، والعكس صحيح، بل إن الطلاب في المدارس أثناء محاضرات مادة التربية الدينية يتم فصلهم، كل منهم يجلس في قاعة خاصة، ما كرس العزلة بحجة أنهم مختلفون في العقيدة.

وتخطط وزارة التعليم ليكون هناك منهج ديني موحد بتعاليم وقيم مشتركة، وامتحان واحد للمسلمين والمسيحيين، ويقوم بتدريس المنهج معلم يؤمن بالعقيدتين، فكل شيء في المنهج مشترك بين الديانتين، ولن تحدث العزلة التي كانت موجودة أثناء تدريس المادة، بما يكرس التلاحم الفكري والثقافي والديني والإنساني بين الطرفين.

ويعكس إصرار الحكومة على موقفها رغم التحفظات المجتمعية من مسلمين وأقباط تخليها عن رعونتها في مواجهة التطرف والتشدد الفكري رغم أن الفكرة قد تجلب لها منغصات دينية وسياسية هي في غنى عنها، لكنها عقدت العزم على أنها لا تملك رفاهية الوقت للتدخل لمنع إنشاء أجيال جديدة بنفس الفكر الرجعي الذي يعادي التحضر.

ومعروف أن أغلب المصريين، سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين، يرفضون مجرد الحديث عن إجراء تعديلات تخص المناهج الدينية، بغض النظر عن كون هؤلاء ملتزمين دينيا أم لا؛ فهم يعتبرون التطوير استهدافا للدين أو محاولة لخدمة عقيدة على حساب أخرى، لأهداف خفية مهما كانت النوايا حسنة.

محمد عبداللطيف: الاتجاه حاليا لإعداد منهج ديني يتضمن القيم الأساسية للديانات
محمد عبداللطيف: الاتجاه حاليا لإعداد منهج ديني يتضمن القيم الأساسية للديانات

ويكمن جزء من المشكلة في أن هناك فئة ليست بالقليلة في مصر تعتقد أن تدريس منهج ديني يؤسس للمواطنة واحترام الآخر ويتناول القيم المشتركة بين الأديان، محاولة لتكريس التحرر الديني والدعوة إلى الإلحاد بشكل غير مباشر، مع أن الحكومة قررت إضافة مادة الدين إلى المجموع الكلي للطالب، بعد أن ظلت مهمشة ولا يهتم بها الطلاب والمعلمون والأهالي.

وقد يكون تثقيف المراهقين والشباب في المجتمع بما تتضمنه الديانة الأخرى من قيم نبيلة ومشتركة، كفيلا ببناء علاقات مجتمعية يصعب اختراقها. وليس منطقيا أن تكون الديانتان الإسلامية والمسيحية متقاربتين في المحبة والتسامح والتآخي وقبول واحترام الآخر دون تمييز أو عنصرية، ولا يتم تثقيف أصحاب الديانات بتلك القيم.

وإذا تعلم الصغير المسلم أن زميله المسيحي لديه نفس القيم في ديانته أو أن عقيدته لا تحرض ضده والعكس، فسينشأ كلاهما على ذلك الفكر وتلك الثقافة، ولا يمكن لأي منهما أن يتأثر بدعوات من شأنها بث الفرقة أو العداء والفتن الطائفية، وكلها ثغرات تتسلل منها تيارات دينية متشددة لمنع أي تقارب إنساني بين أصحاب العقائد.

ولن يتم إلغاء مادة التربية الدينية الإسلامية أو المسيحية، لكن الفكرة تقوم على دراسة منهج ديني أخلاقي في المقام الأول، بحيث يحصل المسلم والمسيحي على الثقافة الدينية من منهج واحد، ويشب الطلاب على أفكار جديدة ومغايرة لتلك التي تربى عليها البعض من الآباء والأجداد، بأنه لا مفر من تباعد المسافات بين المنتمين إلى الديانات، لأنهم لا يتقاربون في الكثير من القيم والمبادئ والأفكار.

وقال البرلماني السابق والباحث في شؤون العقائد محمد أبوحامد إن “وجود منهج ديني قيمي واحد يؤسس لمجتمع عصري متحضر وواع وينبذ العنصرية والفرقة ويكرس الانسجام والتلاحم بين أفراده، بحيث لا تتأسس العلاقات الاجتماعية على الديانة، لأنه من الخطأ الكبير أن تظل علاقات الناس رهينة الانتماء العقائدي، واستمرار ذلك لا يخدم سوى صوت المتشددين”.

وأضاف لـ”العرب” أن “الحكومة محقة في التركيز على الشريحة الأكبر في المجتمع، وهي المراهقون والشباب، ومن المهم الاستثمار في عقولهم وإعادة تشكيل وعيهم من خلال المناهج الدراسية التي تقوم على القيم الإنسانية المشتركة، بما يحصنهم ضد الأفكار السلبية التي تقوم على النظر إلى الآخر بريبة، لأنه مختلف في العقيدة”.

وتمثل تلك الخطوة ضربة قاصمة للمتطرفين الذين اعتادوا استغلال جهل المجتمع بقيم وتعاليم الأديان المختلفة، وفرض السرية عليها، لتغذية عقول الأفراد بالكراهية والأفكار التآمرية والحضّ على العزلة والقطيعة، لكنْ تظل العبرة في تماهي المؤسسات التعليمية الأزهرية مع تحركات الحكومة وتدريس منهج ديني يُعلم الأزهريين القيم الإسلامية المشتركة مع المسيحية”.

وأصبحت المؤسسات الدينية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت آخر بالاعتراف والاقتناع بأن المناهج الوطنية التي تؤسس لنشر ثقافة التسامح وقبول الآخر بين الديانات كفيلة بمعالجة التشوهات المرتبطة بالخطاب الديني، وطالما فشلت في تجديد الخطاب لنشر التسامح عليها المبادرة بتحديث المناهج نفسها، إذا كانت لديها نية لإصلاح العقول.

2