الحكومة المصرية تؤجل فرض قانون التصالح في مخالفات البناء تجنبا للصدام مع الشارع

القاهرة - تراجعت الحكومة المصرية خطوات إلى الوراء بشأن شروط التصالح في مخالفات البناء، وقررت مد مهلة توفيق أوضاع البنايات غير القانونية لستة أشهر جديدة، في محاولة لامتصاص غضب شريحة من المواطنين تفتقر إلى الحد الأدنى المطلوب دفعه من أموال نظير النجاة من التشريد وهدم منازلهم.
وفُهم قرار الحكومة على أنه تراجع أمام انخفاض معدلات التقديم على التصالح وارتفاع منسوب الغضب، ما استدعى التعامل بعقلانية وعدم وضع أجهزة الأمن في مواجهة مع المواطنين أصحاب المباني المخالفة، لأن الخشونة في تنفيذ قرارات إزالة العقارات غير المرخصة أو التي لم يتم التصالح عليها قد يتسبب في أزمة مجتمعية.
واقتنعت السلطة المصرية أن تكرار مشاهد سابقة يظهر فيها مواطنون بسطاء يرفضون تنفيذ تعليمات الشرطة المكلفة بتأمين عمليات الإزالة، يشكل خطورة مع خفوت الأصوات المؤيدة لقرارات هدم المباني المخالفة، ولا بديل عن مد فترة التصالح وتقديم تسهيلات للمواطنين.
وشملت التسهيلات خفض قيمة الغرامات على البنايات المخالفة لمن يسدد أموال التصالح دفعة واحدة، والسماح للبنوك بتمويل غير القادرين على الدفع بفوائد رمزية، شريطة أن تكون لدى المخالفين نية للتصالح مع النزول بتسعيرة المخالفة لقاطني المناطق الريفية إلى الحد الأدنى مراعاة لظروفهم.
وارتبط التحرك بوجود مخاوف لدى الحكومة من خسارتها للبسطاء كقوة شعبية مساندة، حيث لا ترغب في أن يفضي التذمر المرتبط بالعقوبة المالية إلى غضب واسع، قد تستثمره قوى معارضة في إثارة الشارع في توقيت سياسي حساس.
ويصل عدد المباني المخالفة في مصر إلى نحو مليوني منزل، يقطنها حوالي عشرة ملايين أسرة، وهي شريحة كبيرة يصعب السيطرة عليها حال قررت الاحتجاج ضد أي تحرك مرتبط بإزالة المخالفات، ما يفسر مد مهلة التصالح وتقديم حوافز ومزايا للجادين في ترخيص منازلهم.
وهناك شعور متبادل بين الحكومة والمخالفين لشروط البناء بأن كليهما متأكد من عدم الصمت الشعبي إذا نفّذت الأجهزة المحلية تهديدها وقررت هدم المنازل لرافضي التصالح، والظرف الاقتصادي الحالي لا يسمح بأي صدام أو نبرة حادة في ظل مساعي النظام لتوحيد الجبهة الداخلية كأولوية سياسية.
وتُدرك الحكومة أيضا أنها لن تكسب شيئا إذا تعاملت مع ملف التصالح بتهور، فإذا التزم الناس الصمت على هدم منازلهم تخسر عوائد مالية ضخمة، وهي تعاني أزمة اقتصادية مضطرة لاقتناص كل فرصة تُمكّنها من جلب أموال دون الدفع مقابلها.
ويتراوح سعر المتر الواحد عند التقدم للتصالح على البناية المخالفة بين 50 جنيها و2500 جنيه (الدولار= 49 جنيها)، وهي مبالغ كبيرة مقارنة بالظروف المعيشية لأغلبية المواطنين المخالفين لاشتراطات البناء، وأغلبهم من المقيمين في مناطق شعبية وريفية، تكتظ بالعقارات ولا يجد السكان أماكن مرخصة للبناء عليها.
التسهيلات شملت خفض قيمة الغرامات على البنايات المخالفة لمن يسدد أموال التصالح دفعة واحدة
ويرى مراقبون أن الحكومة محقة في الحصول على حقها من مخالفي البناء، لكنها مطالبة أن تتحرك بحسابات دقيقة لأن الظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة على الكثير من المواطنين، ومنهم من لا يستطيع سد احتياجاته الأساسية.
واختارت الحكومة عندما تحركت لفرض قانون التصالح في مخالفات البناء على الناس، التوقيت الخاطئ لمطالبة مواطنين يفتقرون إلى الحد الأدنى المطلوب دفعه من الأموال نظير النجاة بأنفسهم من تعريض منازلهم للهدم، وبدت في نظر البعض “حكومة جباية، وتستحل لنفسها ما في جيوب الناس”.
وأكد رئيس الحكومة مصطفى مدبولي أن قانون التصالح في مخالفات البناء ليس إجراء عقابيا، ويخدم المواطنين الذين استثمروا في إنشاء العقارات خلال سنوات مضت، والتصالح فرصة ذهبية لتعظيم الوحدة السكنية التي ستتضاعف قيمتها.
وهناك شبهة إخفاق في تقدير التداعيات مسبقا لقضية مخالفات البناء، لأن بعض الجهات اقتنعت بأن صمت المواطنين وعدم احتجاجهم ينطوي على قبول بالأمر الواقع، دون إدراك وجود لحظة ربما يعلو فيها صوت الغضب، عندما يجد البسطاء جرافات الحكومة تهدم منازلهم لأنهم لم يدفعوا قيمة المصالحات.
الحكومة مطالبة أن تتحرك بحسابات دقيقة لأن الظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة على الكثير من المواطنين
وينظر مناصرون للنظام المصري إلى التجميد غير المعلن لقرارات هدم المباني المخالفة، عبر تمديد مهلة التصالح، على أنه يعبر عن حكمة سياسية، بعد توعد بنزول عناصر من الجيش لتنفيذ إزالة المباني المخالفة إذا تمسك أصحابها بعدم التصالح.
وأدركت السلطة أن تنفيذ تهديد الملايين من المخالفين للبناء صعبة في الظروف الراهنة بسبب تشعب التحديات في الداخل بالتوازي مع تقلبات في الخارج، والحاجة إلى التفاف شعبي لمواجهة التهديدات المرتبطة بالتوترات الإقليمية.
كما أن انتهاء مهلة التصالح دون مدها لأشهر جديدة كان سيؤدي إلى خطر أكبر، مرتبط بالصدام مع شريحة اعتادت الوقوف خلف النظام الحاكم، وهي تلتزم الصمت للحفاظ على الاستقرار وتقوية دعائم الأمن وتجنب الوصول إلى مصير دول سقطت في الفوضى.
وقال الباحث والخبير في شؤون الاقتصادي السياسي كريم العمدة إن الحكومة محقة في عدم المغامرة بملف التصالح، ولم يكن أمامها خيار سوى التعامل بهدوء مع قضية حساسة، فهناك حاجة ملحة لتغيير الخطاب الموجه للمواطنين حول البناء المخالف.
وأضاف لـ”العرب” أن الحكومة مطالبة بتقديم تسهيلات كبيرة للمخالفين حتى لا تتهم بتحصيل الجباية، مع أن الأرقام المحددة للتصالح ليست مرتفعة مقارنة بالعائد الاقتصادي لصاحب البناية بعد التصالح عليها، ومن الضروري أن تتم توعية المواطنين بمزايا التصالح ليصبح العقار شرعيا ويكتسب صفة قانونية.
ولفت إلى أنه أمام ارتفاع منسوب الرفض لبعض الإجراءات الاقتصادية من الضروري أن يصل إلى الناس خطاب يضفي وهجا إيجابيا على توجهات الحكومة، وليس مجرد محاولة للحصول على ما في جيوبهم من أموال، وهذا دور المسؤولين المعنيين بملف التصالح الذي يتعلق بشريحة تنتشر في كل محافظات الجمهورية.
ويبدو أن الحكومة اقتنعت أخيرا بأن اللجوء إلى سياسة القبضة الحديدية لإجبار المواطنين على الدفع من أجل التصالح لم يعد يجدي نفعا، وأن الحالة التي وصل إليها الناس تفرض على السلطة مراعاة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للمصريين، قبل أن يقفز خصومها على المشهد ويستغلون الأزمة سياسيا.