الحقيقة في الرواية: سؤال ستندال المُربك

لا أتذكر بالتحديد، متى قرأت مقولة الروائي الفرنسي ستندال أو دعوته، إلى أن تؤخذ الحقيقة من الروائي لا من المؤرخ، غير أنها شغلتني طويلا، وبقيت كلما خطرت ببالي، ناقشتها، محاولا الوصول إلى جوهر هذه المقولة، وماذا أراد منها قائلها.
وستندال (1783 - 1842) واسمه الحقيقي ماري هنري بيل يعد من أهم روائيي القرن الـ19، إبداعا وحضورا، غير أن حضوره ظل يتواصل حتى يومنا هذا، ومن أشهر رواياته “الأحمر والأسود” وقد كان تاريخ نشرها الأول في العام 1830، لكنها ما زالت هي الأخرى حاضرة في النقد والترجمة والتلقي.
وكنت أقول إن ستندال حين أطلق هذه المقولة، كانت الرواية لم تتجاوز حدود الواقعية، سواء في رصد الواقع أم في المتخيل الروائي لهذا الواقع، فضاء وأشخاصا وأحداثا، وذلك ما يمكن أن يسوغ فكرة، إن الحقيقة تؤخذ من الروائي لا من المؤرخ، فهل تصحّ هذه المقولة بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وما شهد من تحوّلات كبيرة في الكتابات الروائية، والتي يمكن اختصارها بتعبير شديد التركيز هو “الانتقال من الخارج إلى الذات” وهذا الانتقال إلى الذات، فتح باب المتغيرات الروائية على مصراعيه، حتى ما عاد للنص الروائي أي حدود أو ثوابت.
وإذا كانت الحقيقة، وهي في جميع الحالات نسبية، فليست هناك حقيقة مطلقة، أقول “إذا كانت الحقيقة في النص التاريخي تعتمد الرواية أو الوثيقة، والوثيقة مهما كان مصدرها، فهي تعتمد الرواية والراوي، في شكل من الأشكال، وفي الحالتين لا يمكن أن تكون مطلقة وثابتة”.
إن الروائي مهما كان منهجه في الكتابة السردية، ومهما كانت مصادره المعرفية وخياراته الجمالية، لا بد أن يكون على تماس مع التاريخ، وأن يتمثل أدوات المؤرخ ومرجعياته، وإن النص الروائي مهما ابتعد عن الواقعية كمنهج في الكتابة، لا يبتعد عن الواقع، لأن الواقع ليس واحدا، سواء في الزمان أم في المكان أم في اللغة، إذ لكل لغة طاقاتها وقدراتها في التعبير، وكل هذا لا ينفتح على فضاء الواقع فحسب، بل يعدّده، لذا فنحن في قراءاتنا السردية نتعايش مع أكثر من واقع، ولكل واقع منها سماته وخصوصياته.
لقد اعتدنا أن نبالغ في موقع المتخيل من الواقع، ولو راجعنا الكثير ممّا قرأنا على هذا الصعيد، لوجدنا كتابات كثيرة تنظر إلى المتخيل على أنه نفي للواقع أو هو ضده، بينما لو نظرنا إلى الأمر بعمق يتحرّى ما هو كائن، لوجدنا المتخيل إغناء لواقع ما، أو هو واقع في صورة من الصور.
إن الرواية في تغيّر مستمر، حتى أن أدوات النقد تعمل باستمرار للحاق بما هو جديد فيها وتحاول التكيّف معه، غير أن الروايات المهمة، مهما كان نسبها الجمالي، هي التي تضع المتلقي في فضاء ينتسب إلى الحقيقة والمصداقية.
وفي حوار أجراه جان مونتاليتي مع الروائي الفرنسي آلان روب غرييه وهو من أهم رواد كتابة الرواية الحديثة، قال غرييه “قال لي البير كامو، إن روايتك ‘المتلصص’ تختلف كثيرا عن كتبي، وعمّا أسعى إلى تحقيقه، لكنك خلقت عالما جديرا بالمصداقية التامة”، ثم يواصل آلان روب غرييه حديثه قائلا “ساعتها تساءلت، لماذا كانت رواية ‘الغريب’ عظيمة؟ لأن كامو استطاع بها أن يخلق عالما حظي بكامل المصداقية من طرفي”.
وتقول سيمون دي بوفوار “أنا لا أعرف ما هو الخيال، إنه في نهاية المطاف، مسألة بلوغ درجة معينة من العمومية، من الحقيقة عمّا هي عليه، عن الحياة التي يعيشها الواحد فعلا، الأعمال التي لم تبن على الحقيقة لا تستأثر باهتمامي، إلاّ إذا كانت مفرطة في ذلك، والمثال على هذا روايات ألكسندر دوماس أو فيكتور هوغو، وهي ملاحم في ذاتها وبطريقة كتابتها”.
وتواصل دي بوفوار القول “لكنني لا أسمي القصص ‘المصنوعة’ أعمال خيال، بل هي أعمال تصنيع، وإذا ما أردت الدفاع عن نفسي، فباستطاعتي الإحالة على رواية تولستوي ‘الحرب والسلام’ فجميع شخصياتها مأخوذة من الحياة الحقيقية”.
وما زال قراء كثيرون يتلصصون على النص الروائي، وبخاصة حين يكونون على معرفة بحياة الروائي الحقيقية، ويحاولون اكتشاف أحداث وأشخاص النص الروائي في الواقع، وكنت في بدايات قراءاتي الروائية أفعل مثل هذا، فإذا تعرفت على الروائي شخصيا، وكنت قد قرأت رواياته من قبل، أعود إلى قراءة رواياته، وأحاول اكتشاف أحداثها وأشخاصها في الواقع.
ومن طريف ما قرأت على هذا الصعيد، حين سئلت الروائية الأميركية من أصول صينية آمي تان، إنْ كانت واجهت أوقاتا صعبة مع أقرباء أو أصدقاء حميمين اعتقدوا بأنهم عاينوا أنفسهم في رواياتها، وهل واجهت اتهامات بإفشاء أسرار شخصية وخيانة ثقتهم بها؟ فأجابت بالقول “في روايتي ‘زوجة إله المطبخ’ كانت المرأة هي جدتي التي تعرضت للاغتصاب، وأجبرت على أن تكون خليلة أحدهم، وانتهى بها الأمر إلى قتل نفسها، فاعترض أحد الأقرباء على ما كشفت في روايتي هذه من حقائق، غير أن والدتي غضبت على ذلك القريب وقالت لي: أخبري العالم، عمّا حدث لجدتك”.
هل هذا الذي ذكرناه، بشأن الحقيقة في الرواية، يؤكد لنا، أن الروائي المتميز، أو لنقل الرواية المتميزة، ومهما كانت مكوناتها الجمالية، قادرة على أن تجعلنا نلامس الحقيقة؟ أي أن الحقيقة، وهي نسبية كما أشرنا إلى ذلك من قبل، لا تتحقّق بمقولات تفرض على المتلقي وإنما هي التي يتكامل حضورها بلقاء وعي السارد ووعي المتلقي.