الحرائق والأوبئة تصنع المشهد العبثي وتعلن موت الإنسان

انتشرت مؤخرا الحرائق في أماكن عديدة من العالم، مخلفة كوارث بيئية فادحة، ومهددة الحياة البشرية على سطح الكوكب، ولم تتخلف الفنون من الآداب إلى التشكيل والسينما ولا الفلسفة والأساطير عن مقاربة الحرائق التي ما انفكت تشتد كلما تقدم الإنسان في الزمن وفي ادعاء سيطرته على العالم.
يبدو أن لا مجال للمقاربة أو الاستعارة التخييلية بين ما يحدث فعلا على أرض الواقع، وبين ما اشتهاه الكتّاب والأدباء والسينمائيون من أوبئة وحرائق على صفحات رواياتهم أو على شاشات أفلامهم.
لا الطاعون كان طاعونا واقعا في مدينة وهران الجزائرية كما زعم ألبير كامو (1913 ـ 1960) في روايته “الطاعون” ذات البعد الوجودي المتمحور حول فكرة الخوف. ولا الحريق كان بالفعل، حريقا، كما ذكر محمد ديب (1920 ـ 2003) في نص ثلاثيته الشهيرة “الحريق” الذي أراد فيه ـ مجازا ـ الإشارة إلى اشتعال الثورة ضد المستعمر، لكنّ الواقع هذه المرّة كان أصدق إنباء من الكتب، إذ تشهد الجزائر خلال الأيام الأخيرة حرائق غابات أسفرت عن خسائر فادحة ويصعب تطويقها.
انتقام الطبيعة
كل هذه الكارثة التي اقترفتها الطبيعة ـ حسب نصوص الادعاء المعلنة وتأويلاتها المبطنة ـ جاءت متزامنة مع تداعيات وباء لم يكن مخيال ألبير كامو، نفسه، قادرا على الإحاطة بكل أسئلته الوجودية الثابتة والمستجدة.
ليست الجزائر وحدها تخسر أبناءها وتفقد غاباتها وثرواتها بفعل الحرائق في مشهد حزين طال البشر والحيوان أيضا، بل معظم بلدان العالم الواقعة تحت حرارة فاقت معدلها السنوي، حطمت أرقاما قياسية في تاريخها، وبات الناس يتحدثون بـ”منطق” يفوق المنطق، ويستخدمون تفسيرات ميتافيزيقية تروّج يوما بعد يوم وتنتشر لدى العامة والبسطاء.
هذا الغضب الطبيعي العارم (لنسمّه كذلك مبدئيا على الأقل) أدخل الرعب في نفسية الإنسان شرقا وغربا، وأعاد الأسئلة الأولى من جحورها بعد أن ذهب الإنسان بعيدا في ترويض الطبيعة بل وادعى زورا أنه قد أوشك على الإمساك بكل مفاتيحها والتحكم في غضبها.
الخيال الأدبي والسينمائي أثبت هذه المرة بالحجة والبرهان أنه قاصر وعاجز عن الإحاطة بمدى غضب الطبيعة
أثبت الخيال الأدبي والسينمائي هذه المرة بالحجة والبرهان، أنه قاصر وعاجز عن الإحاطة بمدى غضب الطبيعة وحدود انتقامها منذ ميثولوجيا الإغريق وإلى غاية ملامسة سطح المريخ.
ها هي النار التي أمسك بروميثيوس اليوناني بشعلتها، وأقدم على سرقتها وأهداها إلى البشر بغاية طهي الطعام، تنتقم لنفسها ولمجمع الآلهة عبر الحرائق، وتذكّر الإنسان في كل مرة، أنها نقمة بقدر ما هي نعمة.
النار التي بدأ بها تاريخ الإنسان يوم اكتشافها، وانبهر بها حي بن يقظان في رواية “ابن طفيل” الفلسفية بعد أن كان لا يراها إلا في البرق، يمكن لها أيضا، أن تنهي الإنسان وتقضي على حضارته فوق سطح الكوكب.
ومن اللافت والجدير بذكره، أن النار التي تلتهم اليوم الغطاء النباتي وتشرد الناس من منازلهم، هي التي استحوذت على نشاطات فلاسفة ومبدعين مثل الأميركي اللاتيني إدوارد غاليانو، الذي ألف ثلاثية ضخمة بعنوان “ذاكرة النار”. كما كتب غاستون باشلار كتابين مهمين هما “التحليل النفسي للنار” و”على ضوء شمعة”.
هذا بالإضافة إلى طقوس التبخير والحرق في الديانتين البوذية والهندوسية، ناهيك عن التعبد من خلالها في العقيدة الزارادشتية.
مشهد ميثولوجي
تشتعل النار هذه الأيام على قمم جبال الأولمب في اليونان، حيث أكلت النسور كبد بروميثيوس، لتمتد إلى بقاع كثيرة في هذا العالم الذي نهل من حضارة الإغريق، وتعجز خراطيم الإطفائيين وطائراتهم عن محاصرتها وإخمادها في مشهد ميثولوجي يعيد تذكير البشر بصراعهم الأزلي مع الطبيعة.
ومازالت شاشات التلفزيون تبث صورا ولقطات لحرائق عجزت أعتى وأقوى الأفلام السينمائية على الإتيان بمثلها، حتى ليخيل للمرء أنه أمام نسخة مطورة من فيلم “القيامة الآن” لفرانسيس فورد كوبولا، أو إزاء مشهد من مشاهد الجحيم التي تحفل بها “الكوميديا الإلهية” لدانتي.
لا مكان للرمزية أو الاستعارات الميثولوجية لما يحدث في هذا العالم الذي أصابه مسّ من الغضب بعد أن ملّ من إعطاء الإشارات وإرسال التنبيهات حول الاحتباس الحراري.. والآتي أعظم، بحسب ما تفيد التقارير العلمية والبحوث المتخصصة، لكن بعض المقاربات المشهدية مع الموروث الأدبي والسينمائي، تؤكد مدى استشراف الإبداع الإنساني للمستقبل الذي نعيشه الآن.
ها هي الكوارث تأتي مجتمعة كما يحدث في سينما هيتشكوك وملاحم هوميروس، وكل شيء يحدث كما يتوقع الجميع له أن يكون كما في “حادثة موت معلن” للكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز.
جائحة كورونا تتزامن مع الحرائق والفيضانات والذوبان القطبي والهجرات الجماعية لتشكل خلفية مرعبة للاقتتال البشري على هذه الأرض التي كان وصفها بول إيلوار بأنها “زرقاء كبرتقالة”.
إنه بلا شك، مشهد في غاية القتامة، ولم يكن ليتخيله أشد الكتاب تشاؤما وسوداوية فأين تتجه البشرية بعد هذه العدمية، وأي جنس فني سيتبناه المبدعون بعد الآن؟ بل وما فائدة السؤال عن الأجناس الفنية بعد انهيار الجنس البشري؟
نعم، انهار الجنس البشري انهيارا شبه كامل وسط أزمات أخلاقية أصابت السياسة والاقتصاد، وبات حتى الأفراد الذين يتسببون في الحرائق، لا يتحملون المسؤولية وحدهم، فمعظم الحرائق البرازيلية في منطقة الأمازون هي من صنع الإنسان، إذ غالبا ما تبدأ الحرائق من قبل مستولين على الأراضي يزيلون الغابات لأغراض تربية الماشية أو زراعة المحاصيل ثم تخرج الأمور عن السيطرة.
وأمام تقصير الحكومات والدول الغنية في مهماتها لإنقاذ الموقف وتوفير العيش الكريم لسكان الأمازون، تحدث الواقعة ويطرح السؤال الوجودي المحير، والمتعلق بعيش المزارعين ومدى قدرتهم على الاستمرار في البقاء.
هذه الحرائق التي تودي سنويا بمساحات شاسعة من الغابات، لا تتسبب فقط بخسائر ظاهرة للعيان بل بثقافات تختفي مع أصحابها مثل الحضارة الأمازونية التي أتى على ذكرها قدماء المؤرخين، ومازال يدرسها علماء الأنثروبولوجيا في العصور الحديثة.
هكذا، ولحماقة الأقدار يحيلنا مشهد احتراق غابة في الأمازون إلى أفلام تناولت النساء الأمازونيات وحروبهن الشرسة ضد الغزاة بكل ما أوتين من فتنة في الأجساد وبراعة في القتال ضمن ثقافة تمجد الأنوثة وتستعلي على الذكورة.
نعم، ثمة ثقافات تلتهمها النيران وتفتك بها الأوبئة أيضا.. وهذه كارثة مضاعفة تصيب البشرية في مقتل ضمن مشهد تراجيدي يصيب بالفزع والشعور بعبثية ما آلت إليه الحضارة البشرية.