"الجمال السلبي" يصور تسلخات العيش في لوحات اللبناني منصور الهبر

انطلاقا مما قدمه من أعمال سابقة، اختار الفنان اللبناني منصور الهبر أن ينظر إلى الجمال من زاوية نظر مختلفة في معرضه الأخير الذي أطلق عليه عنوان “الجمال السلبي” معتمدا فيه تقنية الكولاج ومحافظا على شخوصه المعتادة ومجددا ارتباطه بالواقع أكثر.
افتتح معرض الفنان التشكيلي اللبناني منصور الهبر في صالة "أرت أون 56 ستريت" اللبنانية تحت عنوان ”الجمال السلبي” ويستمر حتى الثامن عشر من شهر مارس الحالي. يضم المعرض مجموعة من الأعمال هي من ضمن السياق الذي قدمه الفنان سابقا غير أنها خرجت بضع خطوات عن حدود الخطوط المرسومة باعتبارها حصارا، إذا صح التعبير.
عنوان معرض الفنان “الجمال السلبي” شكل حالة بحد ذاتها لأنه يستدعي أكثر من تأويل. غير أن المَطلع على سيرة الفنان التشكيلية يدرك تماما أن اختيار الهبر لهذا العنوان، بشكل أساسي، هو حضّ للذات على التقدم نحو مرحلة جديدة استقت ركائزها مما قدم سابقا من أعمال.
وعلى الأرجح أن الفنان اللبناني المسكون بجمالية التشكيل الفني وقدرته على التعبير عن أفكاره بلغتين بصريتين مغايرتين، وهما التشكيل والتجريد في اللوحة الواحدة، لم يقصد بعنوانه
هذا مُساءلة ما يمكن أن تعنيه الجمالية من الناحية الفلسفية (وهو موضوع قديم/جديد لم يُستهلك حتى اليوم) ومن ثم تهديم ماهيتها مُذكرا إيانا بما جرى على تسميته قديما بـ”فن البشاعة”. فالفنان لم يقدم أصلا في معرضه هذا أي لوحة
فيها جمال البشاعة إذا صح التعبير ليستفز عبرها عين المُشاهد وفكره هادما أمام عينيه جمال التشكيل تحت سلطة التجريد، علما أنه من المعروف عن الفنان منصور الهبر شغفه الدائم بجمالية الدمج بين الأسلوبين. وسيدرك المُتمعن في لوحاته الجديدة أن المقصود بالجمال السلبي هو تلك المساحة في اللوحة (غير مهم كبرها أو صغرها) التي لا تبرز سريعا وليست هي العنصر الأكثر حضورا فيها. هذه المساحة “السلبية” التي يقدمها لنا الفنان تحيلنا إلى عالم التصوير الفوتوغرافي وإلى عنصر أوليّ هو النسخة الأصلية والدقيقة والشفافة والمؤلفة من الأسود والأبيض التي منها، بعد المُعالجة، تظهر معالم الصورة الواقعية بألوانها وتفاصيلها.
أما أين تتموضع تلك السلبية الجدلية في لوحات الفنان منصور الهبر ففي المساحات شبه البيضاء الخالية من الألوان ومن الحركة والتي تشبه أحيانا مادة لزجة تمتد حينا وتضيق بين الأشكال اللونية المرسومة حينا آخر. وهي موجودة أيضا في البقع التي تفضح التسّلخ لحضور ما نُزع فلم يبق إلا أثره أو نُتف من لونه ونسجيه. وتحيلنا تلك التسلخات إلى القماش الشاشيّ الأبيض التي تضمد به الجروح. كما تحضر هذه السلبية في لوحات أخرى وكأنها فجوات براكين خلت إلا من غازها النافذ إلى سطح اللوحة.
لماذا رأى الفنان اللبناني في تلك السلبية أهمية كبرى؟ على الأرجح لأنها ما “وضّب” أو لجم فوضوية الأشكال الملونة وماءها المُبعثر كحلقات متداخلة في بعض اللوحات لاسيما تلك اللوحة التي يطغى عليها اللون الأخضر. أما إذا أردنا أن نصف فعل هذا الحيزّ السلبي في لوحات الفنان وفعله فيما قدم فيمكن القول إن “السلبي” هو الخامة اللاصقة للأشكال التي رسمها الفنان وقوتها في كونها شبه مستترة تحت سطح اللوحة وقد “اختار” هذا المستتر أن يظهر هنا أو هناك في اللوحة كدلالة على تحكمه في تركيب اللوحة.
هذا السلبي البادي بإشارات بصرية مُختزلة جدا هو أثر الأشكال المنزوعة وبصمتها والشاهد على تسلخاتها وتباعا تسلخات العيش البشري في هذا الزمن.
هنا بالتحديد نجد أن الفنان الهبر لم يتخل عن منطق الفن الذي قدمه حتى الآن. فهو لا يزال، كما هو ظاهر في لوحاته الحالية، يعتمد على منطق تقنية الكولاج حتى وإن لم يعمد إلى قص ولصق أوراق على اللوحة. كما لا يزال يمارس في ذهنه وعلى قماش اللوحة فعل الإضافة والإزالة وأنصاف المحو والرسم و”الخربشة”.
الفارق يكمن بين نصه السابق والحالي لكن في واقع لوحاته الجديدة لم يعد التناقض هو الأبرز، بل الانسجام بين أشكال متهالكة احتفظت الكثير منها ببريقها، وأيضا التناغم بين إسقاطات لونية استطاعت في نواح كثيرة أن تسيل وتغرق ما يجاورها من هيئات ومساحات مختلفة. إن ما كان منتظما ويعادل بحضوره ما بين التجريد والتشكيل خرج عن هذه القاعدة لصالح التجريد.
ومن خلال هذا التجريد وذوبان الأطراف وكسورها استقر منطق الأثر ليكون هو الجامع بين العناصر المبعثرة التي ضبط الفنان تبعثرها فلم تخرج عن منطق الجمال المتعارف عليه والذي تشخص إليه الأبصار اليوم أكثر من الماضي بعد أن حلّ الخراب وتفشت آثار هرطقات التلاعب بمعناه فسيطر وجوب حضوره في عالم قيد الانهيار التام.
وما زالت شخوص الفنان حاضرة وإن وضعها في أسفل بعض اللوحات، وكذلك دواخل الغرف وبعض قطع الأثاث التي رأيناها سابقا في أحد معارضه لاسيما في المعرض المعنون بـ”حياة عائلية”؛ حيث جعل، على الأقل من الناحية البصرية، التفكك الأسري التحاما ومودة بين أفراد عائلة يجلسون مع بعضهم البعض لكن كل واحد منهم غارق في عالمه الخاص.
وجاءت لوحات منصور الهبر، التي شارك بها في معرض جماعي ضخم تحت عنوان “ما بعد الحدود”، بمثابة خطوة كبيرة يبدو أنها أسست لمعرضه الحالي حيث أمعن الفنان في تشكيل “تجريد” انطلق مباشرة ومن عمق تجربة تشكيلية انحاز فيها الفنان إلى الواقع أكثر من انحيازه إلى التجريد حتى وإن ظهر التجريد فيها كمناخ عام انضوت تحت لوائه جميع أعماله التشكيلية.
وقد أشار البيان الصحفي لذلك المعرض إلى أن الهدف منه كان “التأمّل في معنى الحرية والجغرافيا بالمعنى المطلق، من ضمنها الجغرافيا الافتراضية والواقعية، ومحاذاتهما وتداخلهما أو تنافرهما”، وقد ظهر تأثير هذا المنطق في أعمال الفنان الحالية.
يذكر أن منصور الهبر من مواليد 1970 وحاصل على شهادة في الفنون من الجامعة اللبنانية، هذه الجامعة التي لا تزال إلى الآن تخرّج أفضل الفنانين مقارنة بالجامعات الخاصة. وحصل على شهادة الماجستير في الفنون من جامعة البلمند اللبنانية. وهو أستاذ في الأكاديمية اللبنانية للفنون. له العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل لبنان وخارجه. ومن معارضه تلك التي أقامها في الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج.

◙ أشكال شبه مستترة