"الجديد" في عددها 47 تقترب من اختتام سنتها الرابعة

سعت مجلة “الجديد” خلال سنوات صدورها الأربع إلى أن تشكّل، بخطتها النشرية المنفتحة على جغرافيات الثقافة العربية مشرقا ومغربا، ظاهرة ريادية في دنيا الصحافة الأدبية ومنبرا عربيا جامعا، يحتضن الجديد فكرا وأدبا في المهاجر والمنافي والأوطان، ويفتح بالحوار الفكري والنقدي الأقنية المسدودة بين النخب والتيارات الأدبية في لحظة عربية تتطلب مراجعة ثقافية شاملة.
صدر في الأول من ديسمبر الجاري العدد 47 من مجلة “الجديد” الثقافية الشهرية، التي تقترب من اختتام سنتها الرابعة؛ مواصلة مغامرتها الأدبية والفكرية الجريئة، وقد باتت بفضل خطتها الطليعية والأقلام العربية الملتفة حول مشروعها التنويري، منبرا عربيا منتظرا ومنظورا، ومنصة حرة لا غنى عنها لحملة الأقلام المبدعة والجريئة في المشرق والمغرب وفي منافي الثقافة العربية وديار الاغتراب.
مراجعة شاملة للثقافة العربية
في افتتاحية العدد، كتب رئيس التحرير نوري الجراح عن “الجديد”، وهي تقترب من استقبال عامها الخامس؛ طامحة منذ صدورها إلى استئناف مغامرة ثقافية عربية جريئة، افتتحتها مجلات أدبية رائدة سبقتها، وشكّلت منابر للفكر النقدي والأدب الجديد، ولعبت أدوارا مهمة في احتضان الأقلام الأدبية والفكرية. وأكد الجراح في كلمته، التي حملت عنوان “سماء لا تعتقل الأجنحة وفضاء لا يحجر على العقول”، أن المجلة أخذت على عاتقها الحض على مراجعة شاملة للثقافة العربية من خلال العشرات من الملفات التي تناولت القضايا الثقافية والظواهر المجتمعية الأكثر إشكالية، ولا سيما تلك التي اصطلح على اعتبارها مسكوتا عنها، مستقطبة إلى تلك الملفات أقلاما راسخة وأخرى جديدة، لتتفاعل في ما بينها، وتتحاور وتتساجل بقدر كبير من الحرية. وشكّل حضور المرأة ومكانتها في الثقافة الاجتماعية همّا أساسيا وشغل منتجها الأدبي والفكري حيزا بارزا في المجلة.
بيت الجداول
كرّس العدد ملفه، المعنون بـ”بيت الجداول: البصرة ومبدعوها بالصور والرسوم والكلمات”، للاحتفاء بمدينة البصرة التي شهدت قبل شهرين أحداثا دامية، وانتفاضة شعبية عارمة، استنكارا لما آلت إليه أحوالها في ظل الوضع الراهن الشاذ. تضمن الملف مقالات وقصائد ونصوصا وشهادات أدبية وصورا ورسوما من عراقيين بصريين وغيرهم ممن انشغلوا بالأحداث ورأوا فيها علامات على مخاض كبير يعد بمفاجآت مستقبلية، لا في البصرة وحدها التي تحولت من مدينة للخصب والعطاء والمعرفة والابتكار عبر التاريخ، إلى مدينة مهشمة.
ومن عناوين مواد الملف نذكر “حرائق الليلة الماضية: توازيات وتقاطعات” لمحمد خضير، قصيدة “البصراويّون” لكاظم الحجاج، “جنة البصرة: من يوميات الانتفاضة” لوارد بدر السالم، “بيت الجداول الجغرافيا والتاريخ والعمران” لرشيد الخيّون، “المكانس الدينية” لياسين النصير، “الرحلة المدهشة” لفيصل عبدالحسن، “مدينة الأنهار مدينة الغضب” لوديع شامخ، “أصوات اللحظة الراهنة” لأحمد ضياء، قصائد “بمبرة بحجم ضفيرة” لعمار كشيش، “ملحِ الدموع، أو البصرة” لملاك جلال، “أستحي من السياب” لحسين المخزومي، و”دم النهر” لصفاء ذياب. إضافة إلى ثلاث قصائد خالدة لبدر شاكر السياب (بويب، أنشودة المطر، وشناشيل ابنة الجلبي). وفي السياق ذاته خصص مؤسس المجلة وناشرها هيثم الزبيدي مقاله الشهري في الصفحة الأخيرة للبصرة أيضا، وهو بعنوان “تلك المدينة الجميلة: الماضي بلد أجنبي”.
مقالات تتساءل عن مستقبل الثقافة العربية وحال المثقف في علاقة خطاباته بالواقع، وعن فكر النخبة وأزماته
ويصادف نشر هذا الملف مع تجدد المظاهرات في البصرة، حيث قرر المحتجون الخروج بتظاهرات في كل يوم جمعة من كل أسبوع احتجاجا على استمرار انقطاع الكهرباء، وشح مياه الشرب، وتفشي البطالة وسوء الخدمات، والمطالبة بإجراء استفتاء لإعلان البصرة إقليما ليستفيد أهلها من ثروتها النفطية التي تشكّل 80 بالمئة من الثروة النفطية في العراق.
يقول القاص محمد خضير في “حرائق الليلة الماضية”، “إن الأحياء الكبيرة للمدن أنجبت العشرات من القصص التي تستغرق روايتها عشرات السنين، كحيّ ‘العشار’ بالبصرة، المنصَّف بنهر متفرع من شط العرب الكبير، كانت تُستوفى في زاوية مصدره ضريبةُ ‘العُشر’ الجمركية، خلال العهد العثماني. لا تتعدى مساحة هذا المركز التجاري ميلا مربعا واحدا”. ويروي خضير عن هذا المربّع ثلاثة نصوص هي “أول ليلة.. كل ليلة”، “زهرة الجماجم”، و“الحائط الوردي”، وله في كل قصة مذهب ورفقة ومغزى.
ويستحضر الروائي وارد بدر السالم ماضي “بصرياثا”، مبينا أن أكثر من 600 نهر كانت تجري فيها، تتخلل بساتينَ جنوبها وتغدق عليها الماء العذب، فتروي أوردتها وزواياها وتنشر الخضرة في أرجائها، حتى كان الرحّالة والقناصل الأجانب لا يبارحون أفياءها وشطّها ونخلها وأشجارها وورودها وجنائنها وأنهارها المتناوبة وجريان الحياة فيها، فأسموها فينيسيا الشرق وبندقية العرب، لكن قبل ذلك كانت المدينة هي “الخريبة” و“أم العراق” و“خزانة العرب” و“عين الدنيا” و”ذات الوشامين” و”البصرة العظمى” و”الزاهرة” و“الفيحاء” و“قبة العلم” و“الرعناء” و“السبخة”، وأطلق عليها الكلدانيون تسمية “بصرياثا”، أي القنوات لكثرة الأنهار فيها. كما حملت الاسم الأكدي “باب البالميتي”.
ويقص الروائي والقاص فيصل عبدالحسن ما حدث فعلا من انتقال شخصه المتواضع، على لسان سليمان من بيت آل سليمان سليط الأعمشي، من زمنه الحاضر إلى زمن آخر موغل في القدم، ليحكي أحداث ما دار على جده الأول في القصة التي بين أيدينا، بشخصياتها ووقائعها، وأحداثها. وهي قصة حقيقية لسكن جده الأول مدينة “الأبلة” الاسم القديم لمدينة البصرة الحالية، قبل أربعة عشر قرنا، لم يدخلها الكذب والباطل، والخيال من بدايتها حتى نهايتها، فهي موثقة ببرجمان يعود تاريخه إلى مئتي سنة ماضية احتفظ بها.
وتتماهى في قصيدة الشاعر كاظم الحجاج ذاته الشاعرة المتمردة، والبصرة/ الأرض التي شبعت جوعا ودما، وأهلها الذين يخافون الغربة حتى بعد الموت، ويختمها قائلا “وأنا معروف في البصرة منذ صباي، أنا كنت الأنحف والأنحلَ بين الفتيانْ، والبصرة، منذ الجاحظ، فيها الاثنانِ: نخيلٌ ونحيلٌ للآن!”.
يكتب الباحث رشيد الخيّون عن تاريخ البصرة وجغرافيتها، مشيرا إلى أن كتب البلدانيين القدماء تكاد تتشابه حولها، ومنهم مَنْ كتب واصفا عن رؤية مباشرة، ومنهم مَنْ أخذ عن غيره، ونسب ذلك لنفسه. ويتوقف الخيّون عند نزول الرحالة المغربي ابن بطوطة بها ليجد فيها بناء متجددا، ومسجدها عامرا، وهو مسجد الإمام علي بن أبي طالب، ويذكر طبائع سكانها.
كما يتحدث عن زيارة عدة رحالة أجانب البصرة في القرن السادس عشر، والسابع عشر، والتاسع عشر، وقد وجدوا فيها التجارة عامرة عبر مضيق هرمز، وكثرة الحمامات فيها، وشاهدوا الشرفات في بنيانها، والشناشيل، والمقاهي والأسواق والمطاعم. ويرى أنها تميزت بوجود اختلاط ديني وفكري وتعايش ملل ونحل تعودان إلى أيام العباسيين. وليس أكثر من البصرة علما ولغة، ويكفيها أنها دار الجماعتين في علم الكلام والفكر والفسلفة: المعتزلة، وإخوان الصفا وخلان الوفا.
حوار ومقالات وقصائد
وتضمن العدد، أيضا، حوارا مطولا مع الأكاديمي التركي محمد حَقي صوتشين، الأستاذ في جامعة غازي بأنقرة، أجراه الناقد المصري ممدوح فراج النابي، تحدث فيه عن تجربته في نقل أفضل الأعمال الشعرية والنثرية العربية الكلاسيكية والحديثة إلى اللغة التركية. وكذلك قصائد لصادق مجبل، نسيم الداغستاني، وسام علي، علي سرمد، ومقالات ومقاربات نقدية وقراءات في كتب ورسائل ثقافية لعمار المأمون، أمير العمري، فاروق يوسف، عبدالرحمن بسيسو، مهيار أيوب، محمد آيت ميهوب، ممدوح فراج النابي، وعرفان رشيد، تناولت جملة من القضايا الفكرية والنقدية الراهنة تتعلق بالثقافة والمثقفين، وبالفكر والمجتمع، وتطرح الموضوعات الأسئلة الشائكة والأكثر راهنية بين الأسئلة المتعلقة بالقضايا والمشكلات الكثيرة الشاغلة للفكر والمجتمع، من ذلك السؤال عن مستقبل الثقافة التربوية العربية، والسؤال عن حال المثقف في علاقة خطاباته بالواقع، والسؤال عن فكر النخبة والأزمات التي تعصف به، إلى السؤال عن الفارق بين المواطن والرعية، وعلاقة هذا بالتطور الذي جعل من المدينة الحديثة مجمع الحقوق الفردية والجماعية، وأعاد ترسيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مرورا بالسؤال عن علاقة العلم بالدين والعلوم الأرضية بالإيمان السماوي، وصولا إلى ما تسميه إحدى المقالات بأزمة فكر النخبة، في ظل التطورات الحاصلة، والتي عجز الفكر عن تفكيك تشابكاتها على النحو الذي يُمكن معه إنتاج دلالات جديدة تسهم في عملية الانتقال من ماض.
تلك المدينة الجميلة
يقتبس مؤسس المجلة وناشرها هيثم الزبيدي عنوان مقاله “تلك المدينة الجميلة: الماضي بلد أجنبي”، الذي يختم به العدد، من عبارة وردت في رواية “الوسيط” للروائي البريطاني ليسلي بولز هارتلي، ليؤكد أن متابعة أخبار البصرة تشبه مطالعة هذه الرواية، فالمدينة، أي البصرة، تبدو اليوم للصبي الذي عاش فيها أيام السبعينات بلدا أجنبيا.
وكتب الزبيدي أنه من الصعب مطابقة إحداثيات الحياة والثقافة والرقي الاجتماعي والفكري في تلك المرحلة الزمنية، مع ما آلت إليه الأوضاع فيها اليوم من بؤس، ففي تلك المرحلة تعايش البصريون من دون تمايز اجتماعي أو طائفي يذكر. أحياء الفقر مبتسمة وأحياء الغنى غير متبجحة. وفي ما عدا بعض الفيلات المميزة على شارعي متنزهي الخورة والبراضعية، تبدو البصرة متجانسة وحميمية. إن بؤس اليوم، جعل أهل البصرة، وقد أنهكتها حرائق الحروب، يعمدون إلى إشعال المزيد من الحرائق لينتبه العالم لهم، ومن حقهم أن يتساءلوا: متى نقول “بعد عمار البصرة”.