الجامعات الأهلية في مصر "بزنس حكومي" أم حل لمشكلات التعليم

على رغم رهان الأسر المصرية على تحقيق الجامعات الأهلية نقلة نوعية وغير مسبوقة في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي المعاصر، الا أن التكاليف المالية الباهظة للالتحاق بها خيبت آمال الكثير من الطلبة خاصة من أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة، ليطرح بذلك الخبراء تساؤلات: هل الجامعات الأهلية حل ناجع لمشكلات التعليم بسبب رهانها على الرقمنة والثورة التكنولوجية أم مجرد “بزنس حكومي” يعطل النهوض بالمنظومة؟
القاهرة – لم يكن مجموع محمد عادل الذي حصل على 95 في المئة في الثانوية العامة (البكالوريا) كافيا ليضمن لنفسه مكانا في إحدى كليات الطب التابعة للجامعات الحكومية، وعندما لجأ إلى نظيرتها الخاصة اصطدم بمصروفاتها الخيالية، وتجدد أمله مع الإعلان عن تنسيق الجامعات الأهلية التي أنشأتها الدولة مؤخرا.
اضطر الشاب لاستبعاد الطب من اختياراته، بعدما وجد أن مصروفات الكلية بالجامعات الأهلية تتخطى نظيرتها الخاصة. فقد كان يُمني نفسه بأنها غير هادفة للربح، لكن وزارة التعليم العالي اشترطت دفع الطالب مبالغ تتخطى مئة ألف جنيه (6350 دولارا) عن كل سنة دراسية بذريعة أن لديها توأمة مع جامعات أجنبية.
لهذا السبب، مازالت الجامعات الأهلية محل جدل اجتماعي وتربوي وسياسي في مصر، لأن مصروفاتها تتجاوز القدرات المالية لأغلب الأسر رغم تبعيتها للحكومة التي تهدف من ورائها لاستقطاب الشريحة المقتدرة من الطلاب الذين كانوا يسافرون إلى الخارج للالتحاق بكليات أجنبية، ويدفعون عشرات الآلاف من الدولارات سنويا.
ولم تفلح الحكومة في إقناع قطاع كبير من المواطنين بأن التعليم الأهلي غير هادف للربح، ولم تستطع الإجابة على التساؤلات الكثيرة حوله، فكيف أن تبرر إنشاء جامعات بمصروفات وتتوسع فيها بحجة السعي لعصرنة التعليم الجامعي ودفعه لمواكبة العصر، وتحرم المتفوقين دراسيا من الالتحاق بكلياتها وبرامجها الدولية وتختار أصحاب المستويات التعليمية الضعيفة.
وأشار محمد لـ”العرب” إلى أن “الواقع الراهن أثبت سعي الحكومة إلى استبدال التعليم مدفوع التكلفة بالمجاني من خلال التوسع في إنشاء جامعات متقدمة بمصروفات مرتفعة لتواكب احتياجات سوق العمل، مقابل إهمال الكليات الحكومية، وتركها تصارع من أجل البقاء بالتمسك بتخصصات قديمة تستهدف استقطاب أبناء الأسر المغلوبة على أمرها”.
عيون على الخارج
يصعب فصل هذا الشعور عن وجود توجيهات رسمية ببناء المزيد من الجامعات الأهلية، وافتتاح العشرات من التخصصات العلمية المعاصرة، لتحجيم سفر أبناء الأسر المقتدرة إلى الخارج لتلقي التعليم الجامعي هناك، في حين أن الدولة بإمكانها بناء جامعات عالمية تستقطب هذه الشريحة ويدفعون لها نصف ما كانوا ينفقونه بالخارج.
ويبلغ عدد الطلاب المصريين الذين يدرسون بالخارج قرابة 20 ألف طالب، ينفقون أكثر من 20 مليار جنيه سنويا، وسبق لوزير التعليم العالي خالد عبدالغفار أن قال إن هذه الأموال يمكن الاستفادة منها محليا، بدلا من نزيف العملات الصعبة وهجرة العقول، كما يمكن للطلاب العرب والأفارقة استكمال دراستهم الجامعية في مصر.
صحيح أن الجامعات الأهلية لديها كليات عصرية تضاهي الموجودة في دول أوروبية متقدمة، وتقدم برامج تعليمية متطورة تخاطب المستقبل لمجاراة الثورة التكنولوجية، لكنها تستهدف شريحة قليلة من الذين يرغبون في الالتحاق بكليات قمة تحتاج إلى درجات مرتفعة في نظيرتها الرسمية.
وتقول الحكومة إن هذه الجامعات سوف تحقق نقلة نوعية وغير مسبوقة في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي المعاصر، لأن تخصصاتها تم اختيارها بعناية شديدة، وبالشراكة مع كبرى الجامعات والمؤسسات الدولية، على أن يحصل الخريجون على شهادات معتمدة دوليا من الجامعة التي لديها توأمة مع نظيرتها الأهلية في مصر.
ومن المقرر أن يحصل الخريج على الشهادة النهائية من الشريك الأجنبي، وتكون الدرجة العلمية الممنوحة للطلاب تابعة للجامعة الدولية، بغض النظر عن جنسيتها. وتتنوع بين الأميركية والإنجليزية والألمانية والكندية والفرنسية، حتى أن البرامج التعليمية ومحتويات المناهج تضاهي تلك التي يتم تدريسها في هذه الجامعات بالبلد الأم، مقابل نسبة من المصروفات.
وأكد وائل كامل، وهو أكاديمي بجامعة حلوان الحكومية في جنوب القاهرة، “أن التوسع في الجامعات الأهلية محاولة للتحلل تدريجيا من عبء نظيرتها الحكومية تحت شعار أنها غير هادفة للربح، في حين أنها تخاطب فئة لا تزيد عن 6 في المئة من تعداد الطلاب المؤهلين للتعليم الجامعي سنويا، أي أن هناك 94 في المئة من الخريجين محرومون من الالتحاق بها”.
ولدى كامل شعور بأن الجامعات الأهلية الحكومية ظهرت لتنافس نظيرتها الخاصة على “بزنس” التعليم الجامعي، في ظل عدم التوسع فيها وتحديد أعداد معينة سنويا للالتحاق بمؤسسات التعليم المجانية، والأخطر أن هناك قرارا حكوميا أن تقوم كل جامعة حكومية بإنشاء جامعة أهلية تابعة لها دراسيا وماديا وإداريا.
وما يثير استهجان الأكاديمي أن وزارة التعليم العالي قالت إن الدولة أنفقت نحو 40 مليار جنيه على إنشاء الجامعات الأهلية “لو كانت هناك جدية في إصلاح التعليم الجامعي بعيدا عن تحويله كمدخل للاستثمار والربح، لأنفقت نصف هذا المبلغ فقط على تحقيق طفرة معقولة في الكليات المجانية المليئة بالكفاءات الطلابية والعقليات المتميزة”.
خطورة التحول الجذري في فكر الحكومة تجاه التعليم الجامعي، أنه يقتصر التعلم العصري الذي يتلاءم مع احتياجات الثورة التكنولوجية، على أبناء الفئات المقتدرة ماليا فقط، بحيث تكون لهؤلاء الفرصة الأكبر في الوظائف الحكومية والخاصة مستقبلا، بحكم أن خريجي التعليم المجاني درسوا ما لا يتناسب مع الحاضر والمستقبل.
ويقود اقتصار عصرنة الجامعات على الأهلية والخاصة منها إلى أن تكون كوادر الدولة مستقبلا من طبقة معينة، ويظل أبناء البسطاء قابعين في أماكنهم دون القدرة على التغيير من واقعهم الاجتماعي، أو الوصول إلى سلم القيادة، وهو ما يفقد المجتمع توازنه ويجعل المال الوسيلة الوحيدة لتحقيق النفوذ والانتصار على التميز.
وإذا تعامل أبناء الفقراء مع التفوق الدراسي بكليات القمة المجانية على أنه بوابة الوصول إلى الوظائف الهامة، فحرمان الجامعات الحكومية من التخصصات المعاصرة وطرق التدريس الحديثة يقضي على أحلام هذه الطبقة، لأن الواقع يوحي بأن كليات القمة نفسها لن تكون لها قيمة في المستقبل، فأغلبها يُخاطب الماضي.
ولا ينكر كثيرون أن الجامعات الأهلية بما تحتويه من كليات عصرية وبرامج متميزة ومراكز بحثية عالمية مؤهلة لتكون نقلة نوعية في مستوى التعليم ونوعية الخريجين بما يحد من طابور البطالة، لكن معيار الجودة يُقاس أيضا بأعداد المستهدفين ومدى تميزهم الدراسي الذي يتجاوب فكريا ومعرفيا مع التخصصات الحديثة، وهو ما لا ينطبق على هذا النوع من التعليم.
وقررت وزارة التعليم العالي النزول بتنسيق الكليات المعاصرة نحو 5 في المئة عن المجموع المطلوب في نظيرتها الخاصة وقرابة 9 في المئة عن الحكومية، أي أنها وضعت المال مقابل الاجتهاد والتميز، فالطالب الذي التحق بكلية الطب الحكومية حاصل على أكثر من 99 في المئة، لكنه في الأهلية لا يحتاج أكثر من 90 في المئة.
وأوضح وائل كامل أن الاستفادة المثالية من الجامعات المعاصرة بشكل يسمح لأن يكون لها تأثير إيجابي على الدولة والمجتمع، تتطلب أن يكون أغلب الملتحقين بها من المتميزين دراسيا، لا المقتدرين ماديا، وعندما يتم حرمان المتفوقين البسطاء منها فإن ذلك يؤثر على المنتج النهائي لنوعية الخريجين ويضرب الهدف الذي أنشأت من أجله.
صحيح أن الحكومة لديها كليات جديدة تخاطب المستقبل، وبعضها بمصروفات رمزية تناسب القدرات المالية للبسطاء، لكنها لا ترتقي للموجودة في الجامعات الأهلية.
كما أن البرامج المعاصرة التي تحتاج لمصروفات كبيرة، لو أتيحت للمجتهدين من أبناء الفقراء لتغير واقع التعليم الجامعي، وانعكس إيجابيا على خطة الدولة للتنمية.
برامج دراسية نوعية
تطرح الجامعات الأهلية مجموعة من البرامج الدراسية التي تخاطب احتياجات سوق العمل المحلية والإقليمية والدولية لاستقطاب أكبر عدد من الطلاب المصريين والعرب، فمثلا، في جامعة الملك سلمان الدولية 54 برنامجا، و66 في جامعة الجلالة، و43 بجامعة العلمين الجديدة، و28 بجامعة المنصورة الجديدة، وكل برنامج أقرب إلى كلية مستقلة.
وتركز هذه البرامج على أحدث ما وصل إليه العلم والتخصص البحثي عالميا، وفي مجالات مختلفة، سواء اجتماعية أو تكنولوجية أو اقتصادية وقانونية ومحاسبية وفضائية وتطبيقية، وبعض الموجود منها في جامعات حكومية مجانية، يكون بمبالغ مالية تتجاوز عشرة آلاف جنيه للبرنامج الواحد، أي أن هناك نية لتسليع التعليم.
وبغض النظر عن تبعات تركيز العصرنة الجامعية على شريحة بعينها، فإن الخطر الأكبر من الجامعات الأهلية أن تكون سببا في تفريغ نظيرتها الحكومية من الكوادر المتميزة، ويكفي أنها عندما فتحت باب التقديم أمام الأساتذة الجامعيين للتوظيف بها، تقدم إليها ما يقرب من 60 ألف أكاديمي من الكليات الحكومية.
وقالت وزارة التعليم العالي إنه سيتم انتقاء أفضل الأساتذة للعمل بالجامعات الأهلية من داخل وخارج البلاد، حتى يتسنى لها تحقيق الغرض من إنشائها وتحفيز الطلاب على الالتحاق بها، وهو ما يثير مخاوف كثيرين من أن تكون سببا في تفريغ الكليات المجانية من الكفاءات التي تبحث عن زيادة دخلها المادي، والعمل في بيئة تعليمية معاصرة.
وما يزيد هذه المخاوف، أنه تمت مخاطبة العشرات من العلماء المصريين المقيمين في الخارج للتدريس في هذه الجامعات، وآخرين من الأكاديميين الأجانب، وتحدد الراتب الشهري بنحو 4 آلاف دولار لكل منهم، وهو رقم هزيل مقارنة بما يتحصل عليه الأستاذ الجامعي في الخارج، وبالتالي سيكون البديل هو الاستعانة بأعضاء هيئات تدريس الكليات الحكومية.
ويرى معارضون للخطوة أن تفريغ التعليم الجامعي الرسمي من الكفاءات لمجرد تحسين البيئة التعليمية بالجامعات الأهلية، يضر بالمنظومة كليا، وبدلا من أن تعاني الكليات الحكومية من عقم التخصصات، ستواجه أزمة ندرة الأساتذة الذين يحاولون تغيير الواقع بمجهود شخصي عبر تطوير المناهج لتواكب الحد الأدنى للحداثة.
ويقول هؤلاء إنه يمكن للجامعات الأهلية القيام بدور إيجابي في تحسين البيئة التعليمية الحكومية، شريطة تخلي الحكومة عن سياسة الاستثمار وجني الأرباح، بحيث توجه المكاسب المادية منها لتحسين وضعية الكليات المجانية، بمعنى أن يُنفق الأغنياء على البسطاء وتصبح مصروفات المقتدرين بديلا لرفع الدولة يدها عن الجامعات الحكومية.
وفي هذه الحالة، لن تكون هناك حاجة لإنفاق المئات من الملايين سنويا لتحسين البيئة الجامعية الحكومية، لأن مصروفات الأغنياء تغطي نسبيا احتياجات هذه الجامعات للوصول للحد الأدنى من العصرنة والحداثة، وتتحقق العدالة التعليمية ويُتاح للمقتدرين والبسطاء نفس المستوى التعليمي تقريبا، من حيث التخصصات والبرامج العالمية.
وأكد عبدالله سرور، وكيل مؤسسي نقابة علماء مصر، أنه من غير المتوقع اتخاذ الحكومة هذه الخطوة، لأنها أصبحت تتعامل مع مجانية التعليم باعتبارها تمثل عبئا ثقيلا على كاهلها، تريد التخلص منه في أقرب وقت ممكن، بدليل أنها قررت إلزام الراسبين في الكليات الحكومية بدفع مصاريف مبالغ فيها لمجرد أنهم أخفقوا دراسيا.
وتابع سرور أن “معضلة البرامج المعاصرة التي تتحدث الحكومة عن دمجها في الجامعات الأهلية أنها لا تتناسب مع البيئة المصرية أو عقلية شريحة الطلاب الذين سوف يدرسونها، وأغلبهم من ضعاف المستوى، ويلتحقون بهذه الجامعات لأنهم لم يحصلوا على مجاميع تؤهلهم للجامعات الخاصة أو الحكومية واستفادوا من خفض درجات القبول”.
وتشير هذه المعطيات إلى أن إبرام اتفاقيات توأمة مع جامعات عالمية لتشجيع المزيد من الطلاب على الالتحاق بالجامعات الأهلية، لا يكفي لتحقيق نهضة تعليمية في مصر، لأنها نهضة منقوصة، طالما أن التوأمة لم تصل بعد إلى الكليات الحكومية لتكون لديها برامج ومناهج معاصرة، بما يعود بالنفع على الشريحة الأكبر من الطلاب الذين يمثلون عصب المجتمع.
لكن الأصوات الداعمة للفكرة مازالت تتمسك بأن دخول الدولة في مجال الاستثمار بالتعليم الجامعي خطوة نحو الضغط على الجامعات الخاصة لتحفيزها على تحسين قدراتها العلمية، حتى لا تخرج من السباق، وهو التحدي الذي يعود بالنفع على طلابها، بحيث يتم وضعهم على طريق التنافسية الغائبة عن الحقل الأكاديمي.