التونسيون يستحقون المصارحة

يخصّص الرئيس التونسي قيس سعيّد جل وقته لقضايا السياسة والسياسيين، ويريد أن يفتح ملفات حيوية داخل قطاعات فعالة مثل القضاء. هذا مهمّ، ولكنه ليس كل المطلوب، فالشارع الذي انتفض يوم 25 يوليو ضد حكومة هشام المشيشي وطالب بمحاسبة الحزب الرئيسي المسيطر عليها، أي حركة النهضة، رفع شعارات رئيسية تخص الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو الملف الذي فشلت فيه كل حكومات ما بعد الثورة.
وإذا كانت حكومة المشيشي والحكومة التي قبلها التي رأسها إلياس الفخفاخ قد برّرت إغفال هذا الملف بسبب وباء كورونا، فإن تراجعه سيكون فرصة وتحدّيا للرئيس وحكومته وإصلاحاته. صحيح أن الناس لا تزال تتفهم بعد مئة يوم على إجراءات 25 يوليو أن التركة كبيرة، وأن الفساد يغطي على كل شيء في مؤسسات الدولة، لكن الوقت يغيّر النفوس، وخاصة لدى الفئات الفقيرة التي اتسعت دائرتها سواء في المدن أو في الأرياف.
إن الدولة الفاعلة هي التي توسع خططها بالتساوي بين الملفات المختلفة.
من واجب الحكومة أن تخرج للناس وتقدم المعطيات الدقيقة حول ميزانية الدولة ومدى قدرتها على إخراج البلاد من الأزمة، وتضع أهدافا بمدى قريب ومتوسط وبعيد حتى يكون الناس على بيّنة من مستقبلهم
يمكن أن يستمر اهتمام الرئيس سعيّد أو بعض مستشاريه بمواضيع السياسة مثل النتائج التي يفترض أن يفضي إليها تقرير محكمة المحاسبات وفرص حل ثلاثة أحزاب، وخاصة حزب حركة النهضة الإسلامية الذي يضعه قيس سعيّد كأولوية بسبب موقفه من 25 يوليو ونزاع الصلاحيات مع رئيس الحزب راشد الغنوشي منذ 2019.
لكن من الضروري أن توجد دائرة في الدولة مهتمة بالملف الاقتصادي والاجتماعي، والأمر هنا بالتأكيد لا يعني المتابعة الشخصية وإقرار مساعدات ظرفية للفئات الضعيفة، فهذا إجراء غير فعال من ناحية أنه يرهق كاهل الدولة إنْ تحوّل إلى تقليد في كل مناسبة دينية، ومن ناحية فهو لا يحل مشاكل الفئات الضعيفة التي تحتاج إلى حلول دائمة، فضلا عن أن الإجراء لا يستطيع أن يصل إلى كل الناس المستحقة، فدائرة الفقر تتوسع بشكل مستمر في ظل ارتفاع الأسعار وعجز إجراءات الدعم الحكومية عن سدّ هذه الفجوة.
لأجل هذا لا بد أولا من مصارحة التونسيين حول الوضع الذي يعيشونه والمستقبل الذي ينتظرون خاصة في ما يتعلق بقدرة الدولة عن إعادة تصويب المعادلة. فالناس، التي تدعم قيس سعيّد إلى الآن وبنسب عالية كما تثبته استطلاعات الرأي، ترفع من سقف انتظارها، وترى أن رئيس الجمهورية يحمل في يده عصا سحرية، وأن المشكلة قد حلت لمجرد الإطاحة بمنظومة الفساد.
ونقطة المصارحة الرئيسية هي: هل صحيح أن الأموال المنهوبة بسبب الفساد سابقا ولاحقا قادرة على حل مشاكل تونس، وهي فكرة تثير الاطمئنان لدى فئات واسعة خاصة بعد الأرقام المبهرة التي يذكرها الرئيس سعيّد في خطاباته لإدانة المنظومة السابقة.
يمكن أن تكون المنظومة السابقة أو التي قبلها قد سرقت ونهبت البلاد بأرقام كبيرة، هذا وارد ومنطقي بسبب خطة ممنهجة لإضعاف الدولة وضرب الرقابة بما يسهل اختراق المؤسسات والتحكم بالقرار الرسمي، وهو أمر لا يتعلق فقط بالسياسيين، إنما يطول دوائر اقتصادية ومالية ذات نفوذ ساهمت بشكل فعال في هذه الخطة التي تتيح لها استفادة أكبر.
لكن الأهم أن نقدّم للناس الأرقام الحقيقية المسروقة وهل تقدر الدولة على استعادتها كلها أو بعضها، وهل هي فعلا قادرة على إخراج تونس من أزمتها، فالصمت لا يخدم الرئيس سعيّد ولا الحكومة الجديدة التي يفترض أن تأخذ مسافة عن رئيس الجمهورية وتتخلّص من ظله لتعمل ويقدر التونسيون على رؤيتها ورؤية أفعالها والاستماع لبرامجها وخططها لإخراج البلاد من النفق.
من واجب الحكومة أن تخرج للناس وتقدم المعطيات الدقيقة حول ميزانية الدولة ومدى قدرتها على إخراج البلاد من الأزمة، وتضع أهدافا بمدى قريب ومتوسط وبعيد حتى يكون الناس على بيّنة من مستقبلهم وحتى لا ينقلبوا عليها بشكل سريع ويصنفوها مثل الحكومات التي سبقتها كحكومة عاجزة.
أيا كانت شعبية الرئيس سعيّد، وأيا كان حماس الناس للانتقال السياسي الجديد الذي أراحهم من منظومة فاسدة وفاشلة ومرتبكة، فإنهم سيعودون بعد أشهر قليلة للتساؤل عن قدرة الرئيس وحكومته على تغيير واقعهم، ولن تفيد معهم سردية الهجوم على المنظومة السابقة، تماما مثلما استثمرت الطبقة الحاكمة بعد الثورة الهجوم على فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، فقد ملّ الناس من الاتكاء على الماضي لتبرير العجز وغياب الأفق في البحث عن الحلول.
من المهم أن تقول حكومة السيدة نجلاء بودن كل الحقيقة الآن للتونسيين، أي ماذا نملك من تمويلات وماذا علينا أن نستدين به من الخارج وبأي شروط حتى يفهموا ما سرّ الإشارات الأخيرة من الرئيس سعيّد عن التقشف والاستعداد لمرحلة جديدة عنوانها الاعتماد على الذات.
الصدمة التي كانت مطلوبة لإسقاط المنظومة السابقة قد حصلت، والآن من المهم أن تخبر الحكومة التونسيين بكل التفاصيل حتى يضعوا أقدامهم على الأرض. فتونس في وضع صعب ولا تستطيع أن تستدين من المؤسسات الدولية المانحة بسهولة، وهي بحاجة إلى إصلاحات جذرية وعاجلة لتسوية وضعها.
وبعيدا عن الشعبوية، فتونس مجبرة على هذا المسار، وهو لا يتعلق فقط بزيادة في الضرائب، بل الأمر يأتي في سياق حزمة متكاملة عنوانها التقشف القاسي. فالحكومة مجبرة على رفع الدعم بشكل كامل وتحويل جزء منه إلى مساعدات اجتماعية قارة لفائدة الفئات الضعيفة، وهو ما يعني أن أسعار المواد الأساسية ستقفز مرات ومرات وتجرّ معها بقية الأسعار.
كما أنها مجبرة على وقف تيار التوظيف الذي كان العنوان الأبرز لسياسة العجز المالي، ووقف الزيادة في الرواتب والمزايا التي تفرضها المفاوضات الاجتماعية لفائدة مختلف الموظفين سواء في القطاع العام أو الخاص، وهذا يعني أن فورة الزيادات والترقيات التي شهدتها العشرية الأخيرة يجب أن تتوقف، وأن تعيش البلاد هدنة اجتماعية فعلية قد تمتد لخمس سنوات على الأقل، وهذا هو محور شروط المساعدات الخارجية.
من الضروري أن توجد دائرة في الدولة مهتمة بالملف الاقتصادي والاجتماعي، والأمر هنا بالتأكيد لا يعني المتابعة الشخصية وإقرار مساعدات ظرفية للفئات الضعيفة
يذهب بعض الشعبويين إلى الاستهانة بمسار الالتجاء لصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، مستعيرين شعارات قديمة عن الإمبريالية والاستغلال و”التحرر الوطني”، وهي مسائل شعورية لا تغني ولا تسمن من جوع، إذ يمكنك أن ترفع ما شئت من الشعارات للتنفيس عن النفس، لكن النهاية لن تكون سوى بطرق أبواب المؤسسات المانحة.
ومن المهم التأكيد أن الإيحاء بأن تونس ستجد حلولا لدى “أصدقاء وأشقاء” من هذه المنطقة أو تلك لن يحل المشكلة، فهؤلاء الأصدقاء مهما كان دعمهم لتونس وقيس سعيّد لن يقدروا على تقديم سوى ودائع تمكن البلاد من ضمانات تساعدها في الحصول على قروض من المؤسسات المالية الدولية، لكنها لن تكون بديلا راهنا ولا مستقبلا.
إن التغيير الحقيقي له ضريبته، وإذا كانت تونس تسعى للخروج من عنق الزجاجة التي وضعها فيها حكم المبتدئين والفاشلين، فإن عليها أن تخرج من اللين إلى الشدة، وأن تقتنع مختلف المكونات الاجتماعية بما في ذلك النقابات أن المرحلة القادمة عنوانها هو ربط الأحزمة، وليس الاستمرار في الدلال واستضعاف الدولة.