التلاعب في وزارة التجارة عينة من ممارسات الدولة العميقة ضد مسار 25 يوليو

تونس - طرح كشف الرئيس قيس سعيد لممارسات فساد داخل الديوان التونسي للتجارة، تساؤلات لدى الأوساط المحلية بشأن حقيقة تعطيل بعض المؤسسات للسير الطبيعي لدواليب الدولة وتجاهل قرارات الرئيس الذي دعا مرارا إلى التصدي للظاهرة.
ويعتقد مراقبون أن الرئيس سعيد أراد القول من خلال زيارته إلى ديوان التجارة والتفطن لتلاعب بعض المسؤولين بقوت التونسيين، إن جزءا من أزمة نقص المواد الأساسية مفتعل، فبينما يخيّل للكثير أن المضاربة والاحتكار حكر على التجّار والباعة في المحال التجارية، تبيّن أنها تشمل أيضا مؤسسات الدولة.
وتعيد هذه الحادثة إلى الأذهان أزمة الخبز “المفتعلة”، التي أدت في أغسطس الماضي إلى توقيف رئيس غرفة المخابز “من أجل شبهات الاحتكار والمضاربة في السوق بمواد غذائية مدعمة وشبهات تبييض الأموال”، في وقت تظهر فيه جهات رسمية في المنابر الإعلامية للحديث عن الأزمة.
ويهدّد شح وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية القدرة الشرائية للتونسيين، خصوصا بعدما أصبح الاحتكار ممارسة يومية، وسط دعوات إلى ضرورة تدخل الدولة بحزم ومحاسبة المتسببين في التلاعب بقوت المواطنين.
وشدد قيس سعيد خلال زيارة أداها الخميس إلى الديوان التونسي للتجارة على ضرورة تطهير هذه المؤسسة ومسالك التوزيع، ومساءلة عدد من الموظفين بها من أجل تعطيل إبرام صفقة تمويل لشراء مادة القهوة عبر إخفاء صك بقيمة مليون دينار (0.32 مليون دولار) بعنوان ضمان كان سيوضع على ذمة مؤسسة بنكية خاصة.
وقال الرئيس التونسي إن “هذا الصك سحب من قبل الكاتبة العامة بديوان التجارة والمدير المركزي للمصالح المالية بهذه المؤسسة وتمّ إخفاؤه بهدف تعطيل تزويد السوق بمادة القهوة في يونيو 2022”.
وأوضح أن “الهدف من ذلك كان تجويع الشعب وتأجيج الأوضاع”، مضيفا أن “توزيع المواد الأساسية من قبل ديوان التجارة فيه الكثير من عدم الشفافية ومحاولة التنكيل بالشعب التونسي في قوته”.
وأضاف رئيس الجمهورية أن “أي مسؤول لا يتحمل مسؤوليته لن يواصل في مهامه”، قائلا إن “هناك متسللين إلى الإدارة يهدفون إلى تجويع الشعب”، مشددا على أن “ديوان التجارة لا يجب أن يكون ديوان مافيات ولوبيات مرتبطة بمجموعة تعمل على التنكيل بالتونسيين”.
وفي وقت سابق، دعا الرئيس التونسي إلى “ضرورة تطبيق القانون على من يختلقون الأزمات كل يوم بغاية تأجيج الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية”. وكان سعيّد أقال قبل ذلك رئيس المؤسسة الحكومية المكلفة بإدارة عمليات جمع الحبوب وشرائها وتوزيعها في البلاد.
وأفاد المحلل السياسي نبيل الرابحي بأن “ما حصل في ديوان التجارة هو عينة من ممارسات الفساد لدى الدولة العميقة التي تخوض معاركها لإسقاط مسار الخامس والعشرين من يوليو 2021، وأصبح من الواضح تحالف الفساد مع المضاربة والاحتكار والتهريب ضد هذا المسار”.
وأكد في تصريح لـ”العرب” أنه “كان يُعتقد أن دعوات الرئيس سعيد إلى محاربة الفساد مجرد كلام، لكن تأكد وجود تلاعب بقوت التونسيين وتجويع الشعب، ولا بد من وضع حد لهذا العبث”.
ولفت الرابحي إلى أن “مثل هذه الممارسات كثيرة، وهي أساسا عند الرؤوس الكبيرة، وهناك تعيينات عشوائية تلعب دورا سلبيا ضدّ توجهات قيس سعيد”، مشيرا إلى أن “الفساد أصبح مثل السرطان الذي ينخر كل المؤسسات والدواوين والوزارات”.
ويثير تواصل فقدان بعض المواد الاستهلاكية الأساسية في الأسواق التونسية، على غرار الزيت والسكر والحليب والقهوة، جملة من التساؤلات لدى المواطنين بشأن جدية السلطات في محاربة الاحتكار ومراقبة مسالك التوزيع.
ويعدّ تطبيق القانون على المخالفين والمتجاوزين على غرار المحتكرين للمواد الغذائية والمتحكمين في مسالك التوزيع، من أبرز الشعارات التي يتبنّاها الرئيس التونسي في إطار حملته على الفساد خصوصا بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021.
ويرهق غياب الكميات اللازمة من المواد الأساسية المواطن التونسي، حيث حدّدت أغلب المساحات الكبرى والمتاجر لزبائنها كمية الشراء لبعض المنتجات، على غرار الحليب والزيت والدقيق والبيض والقهوة والزبدة.
وقال عمار ضيّة، رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك، “إننا نؤكد دائما على ندرة المواد الغذائية في الأسواق بسبب الاحتكار والمضاربة والبيع المشروط، وهي ممارسات خلّفت عدم توازن في السوق”.
وأضاف لـ”العرب” أن “هناك غلاء للأسعار على مستوى العالم، لكن داخليا هناك احتكار أيضا، والمنظمة من منطلق تخصّصها تدفع دائما نحو التصدي للفساد، والرئيس سعيد يشير دائما إلى أن هناك جهات في الإدارة متواطئة في ذلك”، متسائلا “هل أن ذلك لدوافع سياسية أم نفعية، أم أن
هنالك لوبيات تدفع أموالا حماية لمصالحها؟”.
وتابع عمار ضيّة “لا بدّ من تشديد الرقابة والسيطرة على مسالك التوزيع، لأن هناك من يخلّ بدوره ويترك ثغرة للفساد، الرئيس زار ديوان التجارة، وهذه مؤسسة مهمّة جدا”، لافتا إلى أنه “يوجد دائما تضارب بين الكميات التي تضخّ في السوق والكميات المعروضة، لكن أين تذهب تلك الكميات؟”.
والاقتصار على الخطاب دون تطبيق القانون في مجال محاربة الاحتكار ساهم بطريقة أو بأخرى في اهتزاز ثقة المواطنين بالسلطة ومدى جدّيتها في تفعيل هذه الخطوة.