التشكيلي وسام بيضون يهيم في خرائط بيروت الملونة

لا يستطيع الفنان اللبناني وسام المجايل التخلص من سطوة بيروت عليه، لذلك تراه في أغلب معارضه ولوحاته يعود إلى طفولته ليحيى الزمن من جديد ويصور المدينة حية بجنونها وأهلها أحياء بتجدد حالة الابتكار داخلهم، والتي تجعل الاستمرار حالة ابتكار وجودية لا مهرب منها إلا نحو المزيد.
إعادة الابتكار هي حالة رائجة في لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص حتى كادت تكون جزءا لا يتجزأ من بنيان هويتها المعاصرة لأنها من نسغ الحياة اليومية لأهلها. وتمكين الأمن الفردي يحتاج من الفرد اللبناني ابتكار خطة مُحكمة في غياب الدولة. كما أن إحضار الماء والكهرباء والغاز إلى المنزل يتطلب ابتكارات فردية من سكان البيوت. أما العيش من دون الغوص في متاهات اليأس ووحل المراوحة فيتطلب هو الآخر سلسلة من الابتكارات المُكلفة ماديا ونفسيا على السواء.
وليس الإنسان/الفنان اللبناني إلا “مُبتكر مُضاعف”، إذا صحّ التعبير. إذ هو من ناحية مبتكر في حياته اليومية ومن ناحية أخرى مُبتكر لصيغ عيش خيالية مُغايرة في أعماله الفنية التي تجد أصداءها عميقا في أرض الواقع. من بين هؤلاء الفنانين، التشكيلي وسام بيضون المُجايل للحرب اللبنانية ولكل الأزمات التي تتالت الواحدة بعد الأخرى منذ اندلاعها سنة 1975.
اليوم، يبتكر الفنان في معرضه، الذي يستمر حتى الثاني عشر من نوفمبر الحالي، والمعنون بـ”إعادة ابتكار بيروت” خرائط جغرافية غير علمية ولكن حقيقية لناحية سردها لفوضى بيروت وهي تعيد ابتكار ذاتها على الدوام من خلال أرابيسك لوني ومتقطع فيه الكثير من القلق والكثير من لانهائية التمدد والتقلص والتلاشي تحت طبقات واهمة من الفرح المشبوه يمدّه الفنان بما يحتاج من “فيتامينات” لونية مُتفجرة.
مكان المعرض صالة “أرت أون 56 ستريت” الفنية التي بدورها أعادت ابتكار ذاتها لاسيما بعد انفجار الرابع من أغسطس 2020 الذي أصابها بالكثير من الدمار وهدد بإقفالها لولا إصرار القيمين عليها على الاستمرار. الاستمرار كحالة ابتكار وجودية لا مهرب منها.
بعد مرور عشر سنوات على ولادة الصالة ارتأى القيمون الاحتفال بالمناسبة من خلال معرض يتلاقى مع روحية الاحتفال فكان إطلاق معرض الفنان وسام بيضون الفردي الذي ضم مجموعة كبيرة من اللوحات. ومن خلال أعماله يشارك الفنان وسام بيضون جمهوره بحالة إعادة الابتكار على طريقته الخاصة.
وتقدم الصالة، المعرض من خلال بيان صحافي ننتقي منه هذه الكلمات “من خلال دمج الأشكال التجريدية وواضحة المعالم أنشأ الفنان خرائط جغرافية متعددة لبيروت من خلال نظرته الشخصية لها. اختار الفنان أن يكثّف مواطن محددة من خرائطه بالألوان وتشابك الخطوط ليشير إلى كثافة مدينته وإلى التعددية في نسيجها الاجتماعي. لم توضّح ولم تسهّل خرائطه للمُشاهد المسارات التي يمكنه اتباعها بنظره ولم تشر إلى ما تفضي إليه، بل أخذته إلى متاهات لا قرار لها”.
لمدينة بيروت السلطة المُطلقة في المعرض رغم حضور بعض الأعمال التي يظهر فيها الإنسان والأزهار «حجرية» المناخ
وبعض لوحاته تستعرض بيروت وكأنها عبر نظرة طائر يحلق تارة عن بعد وتارة أخرى عن قرب. وبعضها الآخر بدت وكأنها لفائف مفرودة ومُعلّقة على الجدار لأجل دراستها والتمحيص فيها. وفي كلا الحالتين تقع البلبلة اللونية التي تنظم وتيرتها خطوط ترقّ وتغلظ في مواضع مختلفة.
في معرض سابق له حضرت المدينة كخريطة أيضا وحضرت الطبيعة أيضا بنباتاتها وأزهارها، كما حضر الإنسان لتشكل العناصر الثلاثة تلك عالما مركبا ومتداخلا طغت عليه الأشكال الهندسية التي تحيل المُشاهد إلى الحصى الملونة الساكنة في قاع الأنهار الصافية.
أما اليوم وفي معرضه الشديد فلمدينة بيروت السلطة المُطلقة رغم حضور بعض الأعمال التي يظهر فيها الإنسان والأزهار “حجرية” المناخ، إذا صح التعبير. وقد ذكر الفنان في أكثر من مناسبة أن بيروت “مدينة غائرة تحت جلدي، وهي أشبه بوشم مطبوع فيه وعليه.
ثمة علاقة هي مزيج من الحب والكراهية تدوم منذ 47 عاماً. إنها بطاقة ذاتية، ضرب من رسم خرائط، ذو طابع شخصي. لقد حاولت، من خلال مقاربة تجريدية، إعادة تصوّر – ابتكار خطوط المدينة كتخريم قماشي، وكمجموعة من الطرق والمباني على شكل متاهة شبه فوضويّة لكنها ذات غنى، وكأنني أرسم خريطة تجربتي الشخصيّة خلال كل الأزمنة".
أما إعادة الابتكار التي شكلت الفكرة الأساسية فهي على الأرجح غير معنية بإعمار الحجر، بل بترميم روحها من خلال الألوان التي لم يدع الفنان وسام بيضون واحدا منها إلا ووظفه في خدمة التوهج البيروتي الذي لم يعرف السكينة والثبات على أيّ حال.
من ناحية أخرى هذا التوهج والغزارة في استخدام الألوان يجعلنا نرى في الفنان طفلا أبديا يلحق بيده ولا يكاد يجاريها وهي ترصف القطع اللونية مدفوعة بفرح داخلي يريد أن يعطي للون الحرية المُطلقة.
لا يهم إلى ماذا أو إلى أين ستؤدي تلك الطرقات الضيقة والواسعة على السواء ولا تلك التي تتلاشى في اللحظة التي يعتقد فيها المُشاهد أنه وصل إلى محطة ما. ولا يهم ماذا يختبئ خلف المنعطفات. ما يهم هو هذا الفوران الذي يؤكد أن المدينة حيّة بفضل جنونها وإلا لما كانت قادرة على ألاّ تبالي بالمتاهات وبالأحاجي التي لا تنفك تتشكل وتحفر بتناقضها في خرائط روحها النزقة.
يُذكر أن الفنان وسام بيضون من مواليد بيروت سنة 1961. حصل على شهادة البكالوريوس في الفنون من الجامعة اللبنانية الأميركية. وهو حاصل على جائزة الشيخ زايد للامتياز. في رصيده مشاركات في معارض جماعية داخل لبنان وخارجه. وله معارض فردية لم يخرج فيها من المزج بين الأجواء الغرافيكية والفن التشكيلي. كما انتمى لفترة من الزمن إلى "مشغل جاد" للرسوم الكرتونية والرسوم التوضيحية.