التشكيلي محمد قدّورة وأطول وداع في تاريخ بيروت المعاصر

"وداعا عين المريسة" إشارة الرحيل الأولى للفنان اللبناني.
الجمعة 2022/01/28
حياة سجن قدّورة نفسه فيها

في السابع من ديسمبر الماضي رحل الفنان التشكيلي اللبناني محمد أنيس قدّورة عن عالمنا، ليترك خلفه إرثا فنيا مميزا ومختلفا أنتجه خلال سنوات من العزلة الفنية والإنسانية. لكن رحلته نحو الرحيل الأبدي لم تكن فجائية بل بدأت منذ عقود حين لم يعد لبنان ذاك البلد الذي أحبه ولم تعد بلدته “عين المريسة” كما ألفها منذ صباه.

بعد التأكد من انظفاء أمواج الرثاء الرتيبة والشبيهة بأوراق النعوة الباردة وبعيداعن منطق استعادات ميكانيكية رثّة لسيرة فنان عند رحيله، كما جرت العادة في الصحافة المكتوبة، نفتح نافذة نضرة على عالم الفنان محمد أنيس قدورة الذي تستحيل الكتابة عنه إلا من داخل حياته ومن داخل نصه الفني الشخصي جدا.

بدأ الفنان التشكيلي اللبناني محمد أنيس قدورة البيروتي رحيله عن هذا العالم سنة 1971 ليتمّه سنة 2021 عن عمر يناهز الثمانين سنة.

وتاريخ 1971 هو ليس فقط مهمّا لأنه جاء قبيل الحرب اللبنانية سنة 1975 كبداية لنهاية الزمن الذهبي، الذي لم يدم طويلا وامتد إلى ما يقارب 15 سنة، بل هو مهم أيضا لسببين آخرين: أولا لأنه إعلان عن زمن لم تنحسر بشاعته في تلك السنة بل ظل إلى يومنا هذا “طازجا” لعينا يذكرنا بحضوره عبر تمظهره في عدة أشكال وهيئات متحوّلة وقبيحة، وثانيا لأنه الزمن الذي استشعر فيه الفنان موت الحقبة الجميلة التي ولد وترعرع فيها في بيته المُطل على الشاطئ اللبناني.

1971 هو الزمن الذي استشعر فيه الفنان موت الحقبة الجميلة التي ولد وترعرع فيها في بيته

1971 هو تاريخ مفصليّ في حياة الفنان إذ أقام معرضا جمع فيه أعمالا عديدة مشغولة بالألوان المائية أنجزها خلال أقل من سنتين (أعرف ذلك من كلام أهلي الذين كانوا مقربين منه آنذاك) ومثّلت دفقا من الغنائية منقطعة النظير للبيئة البحرية التي نشأ فيها وعشقها حتى آخر يوم في حياته.

أعطى الفنان يومها لهذا المعرض عنوانا رائيّا وشاملا “وداعا عين المريسة”. منذ ذاك الحين والفنان يودع بيروت وعين المريسة  على مستويين. أولا، لجهة التوقف عن العرض في أواخر التسعينات من القرن الماضي رغم أنه ظل نشيطا فنيا، وقلّ تواصله مع الناس حتى كاد أن يختفي عن كل من هو ليس مُقربا منه، وثانيا على مستوى بداية رحيل منطقة “عين المريسة” بحد ذاتها عن بيروت وما شكلت من حالة فريدة شهبيا وحضاريا وأيضا تراثيا، حيث انتشرت البيوت القرميدية الصغيرة وبضعة مقاه شعبية أذكر منها قُربها الشديد من البحر ورائحة ملحه ورذاذه وأذكر كذلك كراسي الخشب التي لم يُصنع أجمل منها حتى الآن والنباتات والأزهار المزروعة في علب الحليب والسمنة الفارغة لاسيما الحبق والجيرانيوم والفلّ وإكليل الجبل وشجيرة الشاي العطري.

ولمن لا يعرف “عين المريسة” يجب التوضيح بأنها منطقة كثرت فيها الشوارع الضيقة التي تطل عليها البيوت القرميدية وكأنها جزء من الطبيعة وليس اعتداء عليها، سميت كذلك بسبب وجود نبع ماء عذب كان يسيل وصولا إلى البحر حيث كانت ترسو قوارب الصيادين الصغيرة. وكان أهل بيروت يحبون التوجه إليها طلبا للسمك الطازج أوللسيران في أيام العطل الأسبوعية.

أما هذه “العين المريسة” التي امتزجت أجواؤها البحرية بطفولة الفنان وحياته وفنّه التشكيلي لاحقا الذي استقر على استخدام الألوان المائية بعد اختباره للرسم بالألوان الزيتية فقد بدأت في بداية السبعينات تخسر ماهيتها، ولا أقول معالمها، لأن ماهيتها هي أقرب إلى تحديد ما يجعلها ليس فقط مختلفة عن باقي المناطق بل ما يجعلها كيانا موجودا يملك أكثرمن معالم ظاهرية بل يشي بحالة فكرية ومنطق عيش وحميمية كانت تزخر بها علاقات البشر ببعضهم بعضا. وهي حميمية استمرت حتى خلال أوج سنوات الخراب قبل أن تنهار مع نهاية التسعينات أي عند دخول سلطة المال وتكريس فساد ملوك الحرب الذي أصبح هو السلطة إلى يومنا هذا.

أذكر للفنان معرضين أقامهما في منتصف وأواخر التسعينات ولفتتني آنذاك طريقة محاكاة ريشته التي تبنّت البطء والرقّة انسجاما لا بل حلولا عاطفيا مع “مائية” البحر وأبخرته ورذاذه حتى في عزّ أيام الشتاء العاصفة.

معالم أحبها الفنان فخلدها في لوحاته
معالم أحبها الفنان فخلدها في لوحاته

كما لفتني ما يمكن وصفه بـ”تلصلصه” الشغوف على مزاج البحر وأنفاسه في أدنى تقلباته عند اختلاف أوقات النهار والفصول، وأثارني أيضا رسمه للبحر ليس كعامل طبيعي ولكن في تودده للصيادين ولتفاخره بأمواجه البيضاء المرتفعة التي تتهاوى ضاحكة في غواية واضحة لا مكان فيها لمعاني وبصريات “التكسّر” على الصخور.

بعد مرور سنوات على رؤيتي لأعماله ألوم نفسي اليوم لأنني لم ألحّ في لقائه لأنني علمت من أكثر من مصدر أنه ازداد انغلاقه على ذاته ولا ألومه على انطوائيته تلك اليوم أكثر من أي يوم مضى فمعظم جيل التسعينات (جيل الحرب بامتياز) وكل حسب قدرته المادية يحاول أن ينعزل عن حاضر الحال الرديء.

اليوم أكثر من أي يوم آخر نعود إلى معرضه “وداعا عين المريسة”، عين المريسة التي رسمها كلّ عمره بشوق لا ينضب. نعود إلى ما قصده الفنان محمد أنيس قدورة. وما قصده وصل إلى أوجه في فترة قبل انتشار وباء كوفيد – 19، ولايزال معلقا هناك في الأوج الجحيمي.

عين المريسة منطقة كثرت فيها الشوارع الضيقة التي تطل عليها البيوت القرميدية وكأنها جزء من الطبيعة

في هذا السياق بالتحديد نذكر أنه سنة 2019 أقيم معرض الصور للمصور الفوتوغرافي وابن بيروت مروان نعماني. واللافت أنه إلى جانب جمالية تصويره للبحر وحياة الصيادين في عين المريسة، جاء مظهّرا للتماس ما بين البحر والأبراج الشاهقة وهجمتها على البيوت التراثية المتبقية التي طالما صنعت سحر المنطقة.

حفز نعماني بذلك العرض الفني التساؤل حول هول ما وصلت إليه حال منطقة عين المريسة التراثية وشقاء الصيادين المتعاظم وذلك نتيجة لقرارات بلدية بيروت المتعاقبة المختبئة تحت قناع “التحديث” التي وكأنها صممت لمحي المنطقة تلك وخنق صياديها.

ودعّ الفنان في معرضه المفصلي “وداعا عين المريسة” بيئته البحرية الراحلة وأكمل أطول وداع سنة 2021 ليس فقط عين المريسة بل كل ما كانت عليه بيروت قبل القرار النهائي المتعلق بإدخالها أتون الحروب المتنوعة إلى يومنا هذا المحتفي ببداية سنة جديدة لا تقل قهرا من سابقاتها.

فنان اعتزل جزءا من الحياة منذ عقود
فنان اعتزل جزءا من الحياة منذ عقود

14