التشكيلي حسين حسين يرسم مدينة أثقلتها الرطوبة وآلات الحفاظ على الحياة

اختناق لوني ينقل مآسي الواقع إلى اللوحات التشكيلية.
الأربعاء 2022/09/07
لوحات تعيد تصوير الواقع

يصور الفنان التشكيلي حسين حسين بيروت وهي تئن تحت وطأة الرطوبة المرتفعة والظلام المطلق، متتبعا أسلاك الكهرباء ومواقد الغاز الخارجة عن الخدمة بسبب سياسة دولة كاملة حولت لبنان من بلد منير في كل المجالات إلى بلد يفتقر لأبسط مقومات الحياة الطبيعية.

يعيش العالم موجة حرّ كبيرة تزداد قوتها سنة بعد سنة بسبب التغيرات المناخية الجمة وليس لبنان بعيدا عن هذه الأجواء الشديدة الحرارة التي تزيد من صعوبة العيش في بلد مُعلق ما بين الموت والحياة.

وتعيش بيروت بشكل خاص منذ عدة أيام موجة حرارة مرتفعة مع رطوبة جو لا تُطاق حجبت ضوء الشمس من ناحية بغيوم رمادية لا تحركها نسمة لتصبح أشبه بسقف رطب ومنيع يضغط على أنفاس أهل المدينة، ومن ناحية أخرى أشعرت السكان ماذا يعني أن يكون للفراغ ثقل وصمت مُطبق، وكيف تصبح، في هذا الجوّ الخانق، ما نود أن نسميه بـ”أجهزة الإبقاء على الحياة”، الشبيهة بتلك التي تمتلكها المستشفيات، الناطقة بأهوال المدينة ومحاولتها الحثيثة على الحفاظ على حياة هي على الأقل بالحدّ الأدنى.

  • لوحات حسين حسين تظهر ببراعة وحسية عالية حجم التلوث البيئي والسمعي الذي يكاد يجعل ذرات الهواء ترتج من الضجيج

أما ما أردنا أن نسميه بـ”أجهزة الإبقاء على الحياة” فهي ليست إلا أزرارا وعواميد وسقاطات ومحولات الموتورات الفرعية والأساسية التي جرى على تسميتها بـ”الأم” والتي تولّد وتوزع الكهرباء عبر شرايينها/ أسلاكها المُمتدة إلى شقق ومنازل تختنق من انقطاع الكهرباء شبه الكامل منذ أكثر من سنتين بما يترتب عن هذا الانقطاع من عدم إمكانية الحصول على الماء إضافة الى نتائج ومُلحقات عديدة لسنا بصدد الحديث عنها هنا.

ويختنق سكان المدينة هذه من أسعار تأمين المبالغ الهائلة لأصحاب “الموتورات” (الدرجات النارية) التي بدورها، أي الموتورات، تساهم بأنفاسها، إذا صح التعبير، أي بالروائح والملوثات الزاخرة بذرات السخام المتساقطة التي تبثها، تساهم في اكتمال المشهد العام.

يبقى أن للبنانيين الفرصة المتاحة دوما لرؤية، وعن قرب، الخطوط والعلب المعدنية التي ضربها الصدأ والاسلاك الكهربائية الممدودة الموصولة ببعضها البعض أو المقطعة والتي تبدو في أحيانا كثيرة قديمة ومهترئة. كما تبدو بعضها، عند مداخل بعض الأبنية مُعلقة على عواميد خشبية، وكأنها تذوب من شدة الحر وغياب الصيانة الاحترافية.

كل ما ذكرناه آنفا لا يصف بدقة الكثير من المشاهد البيروتية العامة فحسب، بل يصف ما هو موجود وبحسية عالية في مجموعة كبيرة من لوحات للفنان التشكيلي اللبناني حسين حسين. لوحات أنجزها خلال أكثر من سنة. وعندما نقول “كُل” ما ذكرناه من مشاهد فنحن لا نبالغ البتة.

في لوحات الفنان الذي يواظب على نشرها بين الفترة والأخرى على صفحة الفيسبوك الخاصة به والتي ستبدو لأول وهلة خيالية وغرائبية بالنسبة إلى من لا يعيش في لبنان بشكل عام وفي بيروت بشكل خاص، سنشعر من دون أي شك بمستوى الرطوبة العالية والثقيلة المُعلقة في الفراغ في خلفيات لوحاته المختنقة والتي تبدو فيها كل نقطة لون مشحونة برطوبة عالية.

كلها لوحات أنجزها الفنان بمواد مختلفة على قماش الرسم وعلى الخشب أيضا وجاءت أيضا بأحجام مختلفة.

سنعثر على “غيوم رمادية لا تحركها نسمة لتصبح أشبه بسقف رطب ومنيع يضغط على أنفاس أهل المدينة” وعلى مشاهد لـ”أزرار وسقاطات محولات الموتورات الفرعية والأساسية التي تولد وتوزع الكهرباء عبر شرايينها/ أسلاكها الممتدة إلى الشقق والمنازل”.

لوحات حسين حسين تظهر ببراعة وحسية عالية حجم التلوث البيئي والسمعي الذي يكاد يجعل ذرات الهواء ترتج من الضجيج الخارج من تلك الآلات التي تبقي الانسان على قيد حياة شبه طبيعية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن حتى اللوحات التي لا تنتمي إلى هذه المجوعة والتي رسم فيها الفنان الطبيعة اللبنانية هي لوحات مشحونة باختناق لوني يُذكر أحيانا كثيرة بالبلاستيك الذائب بفعل لهيب ما أو شمس عمودية.

عناوين اللوحات تؤكد ما أراد الفنان التعبير عنه من مشاهد "عادية" ويومية، ولكنها في رمزيتها ليست كذلك

وتجيء عناوين اللوحات لتؤكد ما أراد الفنان التعبير عنه من مشاهد “عادية” ويومية، ولكنها في رمزيتها ليست كذلك البتة. من تلك العناوين “سراب” و”الأم” و”مشاهد غير طبيعية لبنانية” و”مشاهد طبيعية لبنانية” ويقع الالتباس شديدا بين ما هو طبيعي وغير طبيعي مقيما المعنى الحاضن لكل تلك اللوحات: إنه وجود ضاغط ما بين الحياة والموت وما بين العادي والغرائبي. فعلى سبيل المثال يرسم الفنان مشهدا يظهر فيه عامود إضاءة في الشارع وهو مضيء في وضح النهار مع العلم أنه نادرا ما يضيء حين يجب أي في عتمة الليل.

وفي لوحة أخرى تبدو السماء الرمادية المائلة إلى الزرقة وكأن الأسلاك الكهربائية قد اخترقتها لتنتفخ من تحتها كما ينتفخ الشريان في زند مريض وضع له المصل. هل هي سماء؟ هل هو جدار؟ أم هو جلد المدينة وقد أصابها الإعياء؟ صحيح أن الفنان حسين يطرح أسئلة في لوحاته، لكن الأجوبة هي ها هنا في قلب لوحاته: جحيم عادي جدا.

وتجدر الإشارة إلى أن حسين حسين فنان تشكيلي من مواليد لبنان 1970 (عين بعال قضاء صور) وباحث في مجال الفنون. سافر في سن مبكرة مع عائلته إلى السينغال ليعود في سنة 1984 متنقلا بين لبنان وروسيا لإكمال دراسته في مجال التقنيات الإلكترونية وبعودته سنة 2003 قرر دراسة الفنون فتحصل على ديبلوم الفنون بدرجة امتياز. استكمل دراسته العليا في الجامعة اللبنانية ومنها حصل على الدكتوراه. شارك في معارض جماعية كثيرة وله سبعة معارض فردية.

أسلاك كهربائية متهالكة
أسلاك كهربائية متهالكة

14