التشكيلي المصري هاني رزق: نقاء الريف يجعل خيالاتنا وأحلامنا غير ملوثة

معاني الأمومة والدفء والهوية تولد من رحم ألوان الأرض.
الاثنين 2020/10/19
سير شعبية وملاحم بطولية وحكايات من التراث

أغلبية المجربين في الفن التشكيلي العربي تقودهم مدارس وتصورات وبيئات غربية، فيما يمكن خوض غمار التجريب انطلاقا من البيئة المحلية وتفاصيلها وأساطيرها وإرثها، حيث تحفل أغلب البلدان العربية بتراث ثقافي وفني عريق وضارب في القدم، بما فيه من حكايات وتصورات وبما يتيحه للخيال من خلق عوالم جديدة مبهرة.

يتجاوز التشكيلي المصري هاني رزق رسم المشهد في لوحاته التعبيرية إلى فضاء أرحب، هو تخطيط ملامح الوطن واستشفاف جوهر الإنسان المتصالح مع أرضه وسمائه، ويحرص على الوصول إلى هدفه بأقصر الطرق، متخليا عن التعميم والبهرجة، مقتصدا في استخدام بالتة الألوان لصالح النبع الضوئي المقصود والمركّز.

في معرضه الأخير “رؤية مصرية” بغاليري “بيكاسو” في حي الزمالك بالقاهرة، خلال الفترة من 4 إلى 18 أكتوبر، واصل هاني رزق (53 عاما) اشتغاله على طقوس الحياة المحلية الصميمة، بماضيها وحاضرها، مستكملا تجربته الخصبة التي شهدت مجموعة معارض سابقة في هذا الإطار، منها “ليالي المحروسة”، و”أنا المصري”.

احتفى الفنان كعادته بالموروث البصري الفني، إلى جانب تقديسه منظومة العادات والتقاليد والممارسات المجتمعية والاحتفالات الشعبية والمناسبات العائلية والدينية وغيرها، خصوصا في القرى الريفية، ولم يتعاط مع الجذور المحلية وتفاصيل البيئة وأفعال البشر في الأيام الخالية بوصفها فلكلورا مندثرا أو حنينا إلى الماضي (نوستالجيا) يجري استدعاؤه كطيف عابر، إنما حرص على تضفيرها بمعاينات اللحظة الراهنة ومفردات الواقع المعيش، وفق رؤية تجديدية تمزج الأصالة بالمعاصرة، وتوازن بين الجماليات الأسلوبية والموضوع الذي يجري تناوله.

رائحة واحدة

الريف أرض حكايات وجمال
الريف أرض حكايات وجمال

 في لوحات معرض “رؤية مصرية”، نسج الفنان سلسلة من اللقطات بدت في تجاورها وتحاورها كوحدات تشكّل معا جدارية كبيرة.

 أوضح هاني رزق لـ”العرب” أن كل هذه المشاهد المستوحاة من الريف في المحافظات المصرية المختلفة، جاءت متقاربة في سمتها وعناصرها لأنها ببساطة تحمل رائحة واحدة، منبثقة من طمي الأرض وخميرة الصلصال الإنساني، وفي كل منهما حقيقة النقاء.

اكتفى الفنان في جميع لوحاته بلون واحد هو البني الترابي، الذي أدخله في ديالوج متناغم مع الأبيض المتصاعد كانفجارات متناثرة فوق المسطح.

وأشار إلى أنه تعمّد هذا الاختصار لأنه ليس بحاجة إلى الحواشي والزوائد في سعيه إلى قنص القيمة الصافية المجردة، قائلا “يكفي لون الأرض، الذي  يثير معاني الأمومة والدفء والصدق والهويّة، ويستحضر جدران بيوت الطين والعلاقات الأسرية القوية الحميمة الخالية من التزيين والتزييف والرياء، ويكفي الأبيض، ذلك الضوء الصادر تلقائيا من الأعماق، والذي يبرهن أنّ بداخل كل إنسان طبيعة بكرا وشعاعا من نور“.

طرح التشكيلي المصري رسالة أساسية مؤدّاها من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ منحازا إلى الأمل الوليد الذي تمخّض في أعقاب ثورات الربيع العربي.

وعن هذه الروح التفاؤلية، يقول “البشر ميزان التقييم، نحن ننضج عقليا ووجدانيا، ونمضي في الاتجاه الصحيح، خيالاتنا وأحلامنا غير الملوثة متجسدة في الريف، حيث نجد أنفسنا، وخرائطنا، ونحلّق في الهواء طائرين فوق خيول التحرر، وخيوط الشمس، ما زلنا نعرف معنى الاحتضان، ونقدّر سنبلات القمح، ونقوى على تجاوز المحن والصعاب، ونتطلع إلى غد يظلل مجتمعنا كله بالاخضرار”.

في معرضه "رؤية مصرية" نسج الفنان سلسلة من اللقطات بدت في تجاورها وتحاورها وحدات تشكل معا جدارية كبيرة

فتح هاني رزق مجال رؤيته على السير الشعبية والملاحم البطولية وحكايات التراث الشفاهي، التي جاءت في لوحاته غير منقطعة الصلة بأجواء الواقع اليومي.

ويؤكد عضو جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة، لـ”العرب” أن “الأسطورة والفانتازيا من معالم حياتنا، بل من ضرورياتها، فالبشر يحلّقون بأفكارهم وتصوراتهم خارج المتاح والمحدود، لأنهم ينشدون المستحيل، إيمانا بأنه يمكن تحقيقه، وهنا تساعدهم وتساندهم الطيور والخيول والسحابات والفراشات والكائنات جميعا، وتضخّ جدران البيوت ونوافذها سعادة وإشراقا“.

في طرحه الفني التجديدي، القائم على تحميل الخطوط الرفيعة فوق إمكاناتها من الصيغ التعبيرية والمعاني المبتكرة المتوالدة، حرص رزق على التمسّك بالقيم التشكيلية الراسخة ومنابع الفن الخام في البيئة المحلية واستثمار مخزون الذاكرة والخبرة الذاتية في بلورة بصمة تخصه وحده.

يضيف أستاذ فلسفة الفن أن “كل ما يقال عن محاولات التجريب وكسر المألوف وإيجاد شخصية فنية مستقلة يمكن إنجازه دون الانجراف السطحي إلى التغريب واستيراد المذاهب دون استيعاب مكنونها”.

ويرى هاني رزق أنه ليس كافيا أن يتزوّد الفنان بالمعرفة ليخوض غمار تجربة نوعية، قائلا “إبراز حياة الفلاحين مثلا لم يكن ليتأتى لي على هذا النحو لو لم أكن فلاحا، أمتلك أرضا، وأعيش مع أهلي ورفقائي وسط الحقول. لا أعني الشكل بطبيعة الحال، إنما أقصد المفهوم والمضمون”.

 براءة الخامة

ملامح العائلة والتفاصيل اليومية
ملامح العائلة والتفاصيل اليومية

لم تبتعد لوحات “رؤية مصرية” في خاماتها عن فلسفة المعرض ونظرة الفنان، إذ اعتمدت على الأقمشة الشعبية المنتشرة في القرى المصرية، وعلى الكتّان، الأمر الذي أكسبها براءة ومصداقية وواقعية في شكلها وملمسها وإيقاعها النفسي، وجعلها وعاء أمينا للاتساع لتدرّجات لون الأرض، والأبيض الوهّاج.

حفل المعرض بالدلالات الرمزية التي خرجت بالكائنات عن سياقاتها المعهودة، إذ عمد الفنان إلى إكساب البشر صفات أصدقائهم من المخلوقات في العالم المحيط، فصار بإمكان الآدميين الغوص في الماء كالأسماك، والارتقاء في الفضاء بأجنحة كالطيور، أو فوق صهوات الخيول، أو على بساط الريح السحري.

كذلك اكتسبت سائر الموجودات صفات بشرية، على رأسها الأمومة، التي تدفقت من الشجر والنخل والأرض والبيوت، بالتوازي مع الأمهات اللاتي احتشدن حول أطفالهن في اللوحات المحرّضة على المحبة والإخلاص في المشاعر.

راهن التشكيلي المصري على إمكانية الإحساس بنبض الحياة في أي مكان يقطنه الأحبّاء، حتى وإن ووروا الثرى، وقدّم الفنان القبور من منظور مغاير، بوصفها بيوتا جديدة للأجيال السابقة، لا يتوقف عن زيارتها والائتناس بها الأبناء والأحفاد الذين لا يجدون أنفسهم بعيدا في العراء.

Thumbnail
Thumbnail
14