التشكيلي الفلسطيني رائد عيسى يحمل غزة على جناحيه ويزور العالم

تقيد الحرب الإنسان وتلاحقه لتدمر سكنه وإنتاجه وحتى هويته، لكنها لا تقدر على الفنان الذي يدرك أن الجسد قد تسلب منه الحرية بسرعة، وتظل الروح حرة ولا يمكن لأحد إلاّه تقييد أفكاره وخياله، فيرى في الحرب محفزا جديدا على الإبداع وفرصة قد لا تمنحها الحياة لغيره، ليحوّل الدمار والخراب إلى مساحة شاسعة للعرض والإبداع.
أن تكون تشكيليا فلسطينيا يحمل صورا عن حقائق موطنه الموجعة فذاك صفة اتصف بها العديد من الفنانين الفلسطينيين منذ ما قبل النكبة الفلسطينية إلى يومنا هذا، وتوزعت أعمالهم الفنية على اختلاف أساليبها وأحجامها وموادها في جميع أنحاء العالم لتكون صوتا واحدا يؤكد أن فلسطين هي وطن للفلسطينيين في الفن كما على الأرض.
لكن ليس من الرائج أن نرى فنانا فلسطينيا ينهمك في إنتاج فنه المتورط في قضايا فلسطين وأهل فلسطين وهو في الوقت ذاته منهمك في “الترويج” للفن الفلسطيني بشكل عام والغزاوي بشكل خاص، وذلك عبر تقديم لوحاته والمساهمة في تقديم فنانين فلسطينيين آخرين مأخوذين بهاجس الوطن.
ومن أهم هؤلاء الفنانين وأكثرهم نشاطا نذكر التشكيلي الغزاوي رائد عيسى الذي تزخر صفحة الفيسبوك الخاصة به بكم كبير من أخبار النشاطات الفنية المتنوعة مع زملاء له داخل وخارج مدينة غزة وصولا إلى اليابان وفرنسا وألمانيا ومصر وأيرلندا. أما ما تميز به أيضا فهو قدرته شبه الدائمة على الابتسامة من بين غيوم سوداء ومُقلقة لا تكف عن التشكل في سماء مدينته غزة في كل فصول السنة.
ليست الابتسامة التي يحملها الفنان رائد عيسى، في معظم صوره الفوتوغرافية التي ظهر فيها وحده أو مع أصدقاء أو زملاء فنانين فلسطينيين وآخرين من سائر مناطق العالم، ابتسامة مجانية بلا أثمان باهظة، كما ليست هي بابتسامة الرضى بقدر ما هي ابتسامة أمل تقول كما ذكر في عدة مرات أمام الآخرين “تدمير البيت والمرسم لن يسكتنا وسنبقى نقاوم بالريشة وننقل معاناتنا ومعاناة شعبنا عبر لوحات فنية أسمى من أفعال وإجرام الاحتلال”.
الفنان ظهر كمُشاهد ينظر إلى غزة البشر والحجر حيث الأفقي هو للمدينة المُكتظة بهياكل مبانيها المتصدعة
ومن المعروف أن صاروخين من طائرات الاحتلال الإسرائيلي أصابا منزل الفنان ليقسماه قسمين فجعلاه غير صالح للسكن البتة. وغزة تتعرض “موسميا” للعدوان الإسرائيلي إلى حد أن ذلك أصبح ضمن سياق حياة الفلسطيني بشكل عام.
وقال الفنان عن الدمار الذي أصاب بيته ومرسمه ودفعه هو وعائلته الكبيرة إلى البحث عن حياة جديدة هي بالحد الأدنى، أقل مأساوية، “الاحتلال دمر نتاجي الفني بين عامي 1999 و2004، أي ما يقارب 300 لوحة فنية تقدر قيمتها بآلاف الدولارات”.
وانتشرت صورة لرائد عيسى وهو يحمل إحدى لوحاته على ركام منزله لتصبح رمزا من رموز الثبات الفلسطيني. وهذا العدوان الذي أسفر عن تدمير عدد كبير من أعماله لم يشكل فقط تشجيعا له على تقديم لوحات جديدة، بل جعله يعتبر الدمار الحاصل مكانا مناسبا لعرض أعماله.
لكن الفنان لم يستسلم، لا قبل ولا بعد عدوان 2021؛ إذ شارك في الأكاديمية الصيفية بمؤسسة خالد شومان بإشراف الفنان السوري الراحل الذي كان مقيما في ألمانيا مروان قصاب باشي بين 1999 و2001، وحصل على جائزة. واشترك في مسابقة “الفنان الشاب” بمؤسسة عبدالمحسن القطاع في رام الله بالضفة الغربية وحصل على الجائزة الأولى. كما أقام في مدينة جنيف إقامة فنية سنة 2007 وأنشأ معرضا هناك بدعوة من بلدية جنيف. وشارك سنة 2009 في “أرت دبي”، وحصل سنة 2011 على منحة لإقامة فنية في باريس.
إضافة إلى كل ذلك شارك رائد عيسى في “بينالي باري” الثالث عشر للفنانين الشباب من أوروبا وحوض البحر المتوسط في إيطاليا، ووجهت إليه دعوات للمشاركة في ورشات عمل وإقامات فنية في بريطانيا وفرنسا وسويسرا والأردن.
مصائر متشابهة
ومنذ فترة قصيرة نشر الفنان على صفحة الفيسبوك الخاصة به ثلاثة أعمال وأطلق عليها هذه العناوين “حرية مُطلقة في سماء غزة” و”غزة من منظور علوي” و”غزة من منظور أفقي”. ويبرز من خلالها تطور فنان بدأ حياته الفنية منذ أكثر من 15 سنة. ظهر هذا التطور من خلال البراعة في استخدام الألوان والخطوط المكونة لأشكال إنسانية فيها الكثير من الزخم في خدمة المعنى الذي أراد التعبير عنه.
كما ظهر الفنان في تلك الأعمال كمُشاهد ينظر إلى غزة البشر والحجر حيث الأفقي هو للمدينة المُكتظة بهياكل مبانيها المتصدعة والمكتظة، والعمودي هو للإنسان المشظى الذي استطاع في لوحة “حرية مطلقة في سماء غزة” أن يخرج من موته الكامل أو من تشظي روحه من أثر المآسي ليحلق في زرقة سماء غزة، هو وإخوانه الفنانون من “الطيور الغزاوية”، وينطلق معهم من زرقة تلك السماء إلى ما بعد أفق بحر غزة ليصل هو ولوحاته إلى بلدان عديدة ولكن أيضا ليشارك بتشجيع وتنظيم معارض لزملائه من فنانين فلسطينيين من غزة وخارجها.
وحول لوحاته الثلاث ونشاطه الفني داخل وخارج غزة سألنا الفنان رائد عيسى فأجاب “شاركت في اليابان بمعرض متنقل ومازال ينتقل من مدينة إلى مدينة منذ سنة 2019 إلى اليوم وكنت هناك في الافتتاح الأول للمعرض. وفي ألمانيا بمدينة كاسل شاركت في حدث فني اسمه ‘ديكومنتا’ يحدث مرة في كل خمس سنوات، وكان لي شرف أن أشارك في هذا الحدث بخمس وعشرين لوحة. ومن تلك الأعمال حضرت اللوحات الثلاث التي لفتت نظرك. وقد شاركت بها على صفحتي تحت عنوان ‘حرية مطلقة’. أنجزت هذه الأعمال وغيرها في فترة الحجر الصحي. وحاولت التعبير عن كيفية أن يكون الإنسان حرا على الأقل من خلال الفكر والخيال”.
ويتابع “إضافة إلى هذه الأعمال قدمت أيضا لوحات تتناول قضية آثار الحرب وما تخلفه من ندوب وذكريات خاصة بي وأطفالي وأطفال عائلتي، وهي جزء من فترة عشتها وقت قُصف بيتنا عام 2014 وعام 2021”.
ويضيف الفنان رائد عيسى قائلا “أنتج فيلم ياباني عن حياتنا الغزية وعن رحلتنا أنا وفنانين فلسطينيين إلى اليابان. وتم عرض الفيلم السنة الماضية في اليابان خلال المعرض المتنقل. وجمع هذا المعرض أعمالا لفنانين غيري وهم محمد الحواجري وسهيل سالم والفنانة اليابانية يوكو كاميجو، وهي فنانة مهمة وصاحبة فكرة ذهابنا إلى اليابان”.
وإن كان رائد عيسى لفت النظر بنشاطه المتميز إلى أمر ما -إضافة إلى لوحاته- فهو أن الفن يملك أجنحة قادرة على حمل مدينة، وعلى حمل وطن إلى أبعد بكثير من حدوده ومن الحدود الضيقة التي أرادها له خيال المُحتل، حصارا وتنكيلا وتغييبا.

