التشكيلي العراقي قيس السندي يطلق "صهيل في مساكن الريح"

مفهوم الهجرة والرحيل عن أرض الوطن، مفهوم عميق يثير في النفس الكثير من الحنين. وهي أفعال وإن أجبر الإنسان على القيام بها إلا أنها تظل تتحكم في مزاجه العام ونظرته إلى الأمور طوال حياته، لذلك نظم العشرات من الشعراء قصائد عن الهجرة والحنين ورسم تشكيليون في لوحاتهم الهجرة كما تحفظها ذاكرتهم.
أقيم مؤخرا معرض فردي للفنان التشكيلي العراقي قيس السندي في صالة “أرم” في عاصمة المملكة العربية السعودية الرياض. ضم المعرض الذي حمل عنوان “صهيل في مساكن الريح” 51 عملا فنيا جديدا بمقاسات مختلفة استخدم فيها الفنان وسائط فنية متعددة.
وقال الفنان التشكيلي لصحيفة “العرب”، في حديث حول مجموعة أعماله الجديدة التي قدمها مؤخرا في المعرض، إنه كانت لديه نية أن يطلق على المعرض عنوان “لماذا تركت الحصان وحيدا” تأثرا بقصيدة محمود درويش – أبدية الصبّار – ولكنه غيّر رأيه واستقر على عنوان “صهيل في مساكن الريح” وذلك لأجل إعطائه شمولية أكبر بما يمكن أن يحتضن مفهوم الرحيل والهجرة.
وأضاف قائلا “عندما نغادر مساكننا فهي لا تغادرنا، وتبقى أشياؤنا هناك بمثابة ونيس. وإن كنا نملك خيلا وتركناها هناك، فإنها ستؤنس البيت كي لا يشعر بالوحدة. فعلاقة الإنسان بخيوله وطيدة جداً، وهي قديمة قدم الإنسان ووجوده. فالحصان هو رفيق صاحبه ويتقاسم معه الكثير من تفاصيل حياته اليومية، وخاصة موضوع التنقل والرحيل، ولذلك تتحول الخيول إلى مساكن لأصحابها في الترحال، وهي لها دور حيوي في تشكيل الحضارات وتجسيد معالمها المكانية والزمانية على حد سواء”.
قيس السندي: الخيول لها دور حيوي في تشكيل الحضارات وتجسيد معالمها المكانية والزمانية
هذا ما انطلق منه الفنان قيس السندي عندما أخذ الريح وعبر به الحنين إلى الأمكنة التي سكنها وسكنته. ثم توسع في نصه البصري كما يفعل كل فنان، فلغته هي أولا وأخيرا المرئي بكل ما يحمل من مشاهد متلاصقة أو متراكمة.
وفي نص السندي حضر التلاصق والتراكم على حد سواء لتصبح كل لوحة مأهولة بأكثر من إحساس وفكرة. كما برزت المشاهد التي يستعد فيه بطل لوحاته، الحصان، للرحيل.
فكرة الاستعداد للرحيل فيها الكثير من الأهمية وكأن الفنان أراد شعوريا أو لاشعوريا تخليد اللحظة الأولى للانفصال عن الوطن بكل ما يحمله ذلك الأمر من مشاعر حزن. فمهما طال الزمن وتراكمت الخبرات في بلاد الغربة ظلت لحظة المغادرة بوهجها حاضرة في الوجدان.
صحيح أنه في بعض اللوحات المعروضة يعثر المُشاهد على آثار الفنان في تشكيل هيئة الأحصنة لذاتها بحدة التعبير وعصبية الخطوط وهي تخترق أفق الحاضر نحو القادم مكانا وزمنا على السواء غير أن هذا ليس جلّ ما شغل قيس السندي. فالحصان رصده وحققه الفنان كرمز للرحيل والحلول والاستمرارية وفي كل تلك الحالات لمع نبل هذا الكائن المُثقل، ولكن القادر على تحمل شتى أنواع الصعاب والتجارب الجديدة ليس لأجله بقدر ما هو لأجل صاحبه ولأجل الأرض التي ترعرع فيها واضطر إلى مغادرتها.
وفي بعض لوحات السندي حضر الإنسان الذي يحن إلى تلك الأمكنة. حضر الإنسان الذي اتحد مع المكان فصار بوصلة لحنين الفنان إليه. واللافت في ملامح شخوصه القليلة التي سكنت اللوحات إرهاق مُزمن خارج منطق الحزن أو اليأس فبدت هادئة جدا وعليه لا تتحمل الكثير من التأويل. ولعل هذا الانطباع الذي يشكله الناظر إلى اللوحات التي تسكنها الشخوص مردّه قدرة أو رغبة الفنان في فرض أسلوب مُحدد ومزدوج على المُشاهد مبنيّ على عنصرين: فهو من ناحية يشغل نظره بالتمتع بالتقنية الفنية أي بضربات ريشته البارزة وتكور الخطوط وتقعرها وتقطّعها وتداخلها ودورانها. ومن ناحية أخرى يخرجه من التمعن ببهلوانيات الخطوط المرسومة ليوقظ عاطفته، أي عاطفة المُشاهد نحو التعاطف مع الإنسان المرافق لحصان يحرك فضاء اللوحة ويجمدها حينا آخر.
والحصان أصبح هو العاطفة والحنين والانطلاق المُكبل بظروف الهجرة القاهرة. هكذا تستوي التقنية الفنية والتعبيرية العاطفية وتصبح باتحادها شاهدة على رسوخ المشهد المرسوم في مخيلة الفنان وذاكرته.
وحتى لا يصبح هذا الكلام عاما وغامضا يجدر ذكر لوحة محددة تبرز فيها أكثر من غيرها ما ذكرناه آنفا. وهي اللوحة التي نود أن نسميها بـ”الجنين الأزرق”. ويبدو في هذه اللوحة حصان أبيض اللون مكتمل الملامح في وضعية تشبه الجنين الخارج من كوكب “شمسي”، إذا صح التعبير، أو هو محتضنه بأطراف حوافره. مركز الفنان الحصان في أعلى لوحته فجعله آية من الجمال ورمزا للحنين إلى الرحم الأوسع وهو الوطن الذي اغترب عنه. ويحضر في أسفل اللوحة هيكل بسيط جدا يشبه رسم الأطفال لبيت شبحي خال من أصحابه. بيت “يؤنسه، والتعبير للفنان، الحصان كي لا يشعر بالوحدة”.
ويبرز في معظم اللوحات هذا الحصان مُحملا بحقائب سفر تماهت أحيانا كثيرا مع أجساد الأحصنة، ومحملة بمتاع غامض لا بد أنه يضم أكثر من أغراض الناس الشخصية. فهو مُحمّل بآمالها وأحزانها وذكرياتها وعمرها الذي عبر.
كما ذكرنا آنفا، أراد الفنان العراقي أن يطلق على معرضه عنوان “لماذا تركت الحصان وحيدا” تيمنا بكلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش. غير أنه فيما قدمه من لوحات لا يحيد عن هذه الكلمات بقدر ما يقترب أكثر إلى ما قاله الشاعر السوري فراس الديري ” مهجّر أنا.. وطني حقيبة سفر. أجرّ في طياتها أشلاء عمر قد عبر.. الشمس طاح شعاعها.. والليل فارقه القمر. حتى الدموع تخونني في حزنها.. حتى الحدائق كم تفيض.. لكن بأوثان حجر..”.
يذكر أن قيس السندي من مواليد بغداد عام 1967، وحاصل على البكالوريوس في الهندسة من جامعة بغداد عام 1989، وبكالوريوس فنون تشكيلية عام 2002، وأكمل دراسته للماجستير في الفنون الجميلة عام 2004 من جامعة بغداد، وهو عضو نقابة الفنانين التشكيليين العراقيين وعضو الرابطة الدولية للفن التشكيلي العالمية لليونسكو.
أقام السندي عدة معارض في العالم منها معرض “الحب والسلام” في نيويورك 2009، و”عيون عراقية” في ولاية ميشغان بالولايات المتحدة عام 1996، و”بلاد الرافدين مهد الإبداع وأرض الحضارة” في كاليفورنيا، إضافة إلى معارض أخرى في الأردن ولبنان والبحرين والإمارات العربية المتحدة، وألمانيا وهولندا وسويسرا.

