التجريس كلمة السر.. الإعلام المصري يعلي الدقة على السبق

أزمة الكثير من وسائل الإعلام في مصر أنها كانت حتى وقت قريب تستسهل عدم التدقيق في نشر المعلومة وتتهاون في أخطاء مهنية كانت تمهد لسقطات إعلامية، لكن صارت هناك رقابة ببعض الصحف التي تريد النجاة من التشهير على بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تصطاد الأخطاء والشائعات.
القاهرة - أظهر تراجع معدلات نفي الشائعات في مصر بنسبة كبيرة انخفاض منسوب الأخبار المغلوطة في الصحف والبرامج التلفزيونية ليس بغرض إعلاء المهنية والمصداقية، بل لأن بعض مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى رقيب وأصبحت تتلقف كل كبيرة وصغيرة ينشرها الإعلام أو حتى تصريحات يصدرها بعض المسؤولين وتفندها لتكشف الكلام المكذوب وتقدم للجمهور المعلومة الصحيحة.
وظل النفي الرسمي لما تنشره صحف ومواقع وتذيعه برامج تلفزيونية مبهما أو خاليا من اسم الوسيلة الإعلامية التي بثت الخبر المكذوب لتجنب التشهير بها وعدم إغضاب المسؤولين فيها لتدخل الجهة الرسمية في خصومة تتحول إلى ثأر مع المنبر الإعلامي الذي تم تكذيبه، وهو ما دفع بعض الصحف إلى استسهال فكرة نشر الأخبار دون توثيقها والتحقق من صحتها.
وهناك صفحات متخصصة على مواقع التواصل الاجتماعي تقوم بالعكس تماما، فهي لا تتردد في التشهير بصحيفة أو موقع أو برنامج يبث معلومة غير دقيقة وتهتم بكل ما تنشره وسائل الإعلام من تصريحات وأخبار للوقوف على دقة المعلومات.
صفحات التدقيق المعلوماتي على مواقع التواصل لا تهتم بالتشهير فقط بقدر ما تهدف إلى إظهار الحقيقة باحترافية
وإذا كانت المعلومات التي تنقلها الصحيفة خاطئة أو مشكوكا في دقتها تقوم الصفحات بنشر صورة من نفس العنوان الذي كتبته الصحيفة وتكتب إلى جواره بالخط الأحمر “خبر غير صحيح”، ثم تقوم بتوضيح المعلومة الصحيحة والأدلة التي تدعم صحته، لاسيما إذا كانت المعلومة مرتبطة بقضية تشغل الرأي العام وجمهور شبكات التواصل.
ومن أشهر هذه الصفحات وأكثرها انتشارا بين الجمهور العادي “صحيح مصر”، “فالصو”، “اكتب صح”، وتتغير أهداف كل صفحة عن الأخرى نسبيا، حسب طبيعة القائمين على إدارتها ومجال تخصصهم، فمثلا “صحيح مصر” و”فالصو” متخصصتان بشكل أكبر في كشف الأخبار غير الصحيحة والتقاط الشائعات في الصحف أو البرامج، لكن “اكتب صح” مهتمة بكشف الأخطاء اللغوية.
الميزة أن صفحات التدقيق المعلوماتي على مواقع التواصل لا تهتم بالتشهير فقط بقدر ما تهدف إلى إظهار الحقيقة باحترافية، فهي عندما تقوم بتصحيح معلومة نشرت بصحيفة أو موقع أو تطرق لها أحد البرامج تستند على أدلة كثيرة لتأكيد موقفها.
وقال حسن عماد مكاوي أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة لـ”العرب” إن شعور الصحافي أو مقدم البرنامج بوجود رقابة خاصة بالتحري المعلوماتي ولو كانت عبر منصات التواصل سيكون مدفوعا لمراجعة نفسه ولا يكتب أو يقول إلا المعلومة الدقيقة، ومشكلة الكثير من العاملين بالإعلام أنهم لا يدركون خطورة الكلمة ويستسهلونها.
وما عزز مصداقية الصفحات التي تصطاد المعلومات المزيفة أو الأخطاء المهنية أنها ليست تابعة لجهة رسمية، وكثيرا ما تذهب إلى تحليل وتفنيد الشائعات التي تطلقها جهات حكومية ومسؤولون كبار، أغلبهم وزراء ومحافظون ورؤساء هيئات، كذلك الشائعات التي تكون مصدرها كتائب إلكترونية لديها أهداف سياسية بدعم النظام بتضخيم تجميل الصورة أو الثأر منه عبر معارضته وتشويه صورته بالشائعات.
وتستفيد هذه الصفحات من استقلاليتها وعدم خضوعها لأي جهة، في نيل ثقة الجمهور المتابع، فهي تهتم بكشف سقطات الإعلام الحكومي والمسؤولين وفي نفس الوقت تقوم بدور فاعل في الرد على المنابر الإعلامية المعارضة التي تتبع جماعة الإخوان وتبث من تركيا وقطر، بالتالي فهي توازن في كشف مصدري الشائعات ولا تدعم تيارا على حساب الآخر، فالإعلام المؤيد والمعارض للحكومة سواء في الفضيحة.
وعندما يتم توريط الوسيلة الإعلامية بإذاعة أنباء مغلوطة، فمثل هذه الصفحات لا تشهّر بالمنبر الإعلامي بقدر ما تركز على مصدر المعلومة نفسه، بأن ترد عليه بأدلة وبراهين تؤكد زيف كلامه، أي أن هذه الصفحات لا تُحاسب الصحيفة أو البرنامج على عدم مصداقية “المتحدث” أو ناقل المعلومة، بل المسؤول الذي أدلى بالتصريح، دون إدراك العديد من المسؤولين أن مواقع التواصل أصبحت مصيدة للسقطات.
وميزة التدقيق المعلوماتي لتصريحات المسؤولين في الإعلام أن التضخيم في نشر معلومات وأرقام غير صحيحة ومبالغ فيها أصبحت عليه رقابة، وهذه صارت أزمة للصحف والبرامج نفسها حيث أصبح الحديث عن دعم الحكومة والتمجيد في إنجازاتها مرهونا بلغة الأرقام الصحيحة، لأن عكس ذلك يعرض المسؤول والمنبر لحرج بالغ، وربما فضيحة على منصات التواصل، ما تلبث أن تتحول إلى سخرية.
ويصعب فصل تركيز شبكات التواصل على سقطات الإعلام والمسؤولين عن كثرة الأخطاء المعلوماتية وعدم اكتراث العديد من المنابر بفكرة التدقيق، وضعف المحتوى واستسهال نشر تفاصيل يراها البعض صغيرة لكنها كبيرة، مثل البيانات والأرقام والتواريخ التي يتم جذب الجمهور بها ولو كانت مغلوطة على حساب المصداقية.
وأجبرت رقابة منصات التواصل الكثير من الصحف والمواقع الإخبارية على تعديل سياستها التحريرية في ما يرتبط بإعلاء الدقة على السبق، لأن سرعة النشر قد تقابلها فضيحة تضرب مصداقية الموقع عند الجمهور المستهدف، خاصة وأن الصحف الإلكترونية تستهدف رواد ومتصفحي الشبكات الاجتماعية بالأساس.
إذا كانت المعلومات التي تنقلها الصحيفة خاطئة أو مشكوكا في دقتها تقوم الصفحات بنشر صورة من نفس العنوان الذي كتبته الصحيفة وتكتب إلى جواره بالخط الأحمر “خبر غير صحيح”
وقال الصحافي محمد خ، وهو اسم مستعار لمحرر يعمل بموقع إلكتروني، إنه ذات مرة طُلب منه التحقق من صحة معلومة قيلت له من نائب وزير بالحكومة وفي صميم تخصصه الوظيفي فتعجّب من الطلب، وسأل مدير التحرير إذا كانت معلومة المسؤول مشكوكا فيها فمن أين يتحقق منها علما بأنه المعني بالملف داخل الحكومة؟ وقتها كانت المعلومة مرتبطة بنسبة مئوية، فالمسؤول، وهو نائب لوزير التعليم لشؤون التعليم الفني، قال إن 80 في المئة من الملتحقين بالمدارس التجارية فتيات، وتخشى إدارة الموقع الإخباري أن تتورط في النسبة ولو على لسان المسؤول وقيل للصحافي “صفحة ‘صحيح مصر’ قاعدة للصحف والقنوات بالمرصاد ولازم نتأكد من النسبة”.
وأضاف الصحافي المصري لـ”العرب” “بالفعل تم الوصول إلى موقع وزارة التربية والتعليم للحصول على إحصائية بطلاب المدارس التجارية، ذكورا وإناثا، للوصول إلى النسبة الصحيحة للفتيات، وتبين أنها 69 في المئة، وليست 80 في المئة كما صرح نائب الوزير، وتم الاستقرار على كتابة كلام المسؤول، بالإضافة إلى ما تتحدث عنه الإحصائية، وليأخذ القارئ الصحيح منهما”.
ولفت إلى أن اصطياد بعض الصفحات أخطاء الصحف والتشهير بها يشكل أداة ضغط على العاملين فيها، ويجبرهم على التدقيق المعلوماتي، حتى أن إدارات التحرير أصبحت تفرض عقوبات صارمة على أي معلومة خاطئة، في حين لا تُعاقب إذا تأخر نشر المعلومة، المهم أن تكون صحيحة، لأن التشهير على شبكات التواصل يصعب ترميم تداعياته، حتى لو تم إصلاح الخطأ وتصويب المعلومة في الصحيفة الإلكترونية.
ويؤكد البعض من خبراء إعلام أن تحول بعض الصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي إلى وسيلة تمارس دورا رقابيا يفيد المهنة ويكرس المصداقية والتحري والتدقيق، قبل التورط في نشر معلومات وأرقام ودراسات مكذوبة قد تثير أزمة مجتمعية، حتى لا يتم استسهال الشائعات بما يؤثر على صورة الإعلام المصري كافة.
وأضاف عماد مكاوي لـ”العرب” أن تحسين صورة المهنة لا يكون باصطياد الأخطاء فقط، بل بوجود رقابة ذاتية داخل المؤسسات الإعلامية نفسها، وهو ما تفتقده المهنة بنسبة كبيرة، ومطلوب وجود أقسام متخصصة في الجودة والتدقيق والمراجعة وتصويب الأخطاء قبل وصولها للجمهور والوقوع في مصيدة الشبكات الاجتماعية.