التجارة الموازية عين رقابية على الحدود التونسية الليبية

يطرح تجاهل السلطات للمهرّبين تساؤلات عدّة داخل الأوساط التونسية لاسيما في ظل تردي الوضع الاقتصادي للبلاد الذي يتحمّل التهريب جزءا منه، ويعزز الشكوك في ما إذا كانت الدولة تعتمد على المهرّبين في رصد تحركات الإرهابيين بينها وبين ليبيا خاصة التي تشهد انفلاتا أمنيا منذ سنوات.
تونس - تكشف عمليات التهريب النشطة على كامل الشريط الحدودي بين تونس وليبيا والممتد على حوالي 500 كم، حجم الأضرار الاقتصادية للبلدين لكنها تسلّط الضوء على محاولات خفية للسيطرة على المخاطر الأمنية التي قد تهدد الجانبين، عبر مسالك التهريب والمهرّبين.
وبين تونس وليبيا حدود طويلة، أكثر من 80 في المئة منها صحراوية، تصعب مراقبتها والسيطرة عليها من قبل السلطات الأمنية للبلدين، وهي مناطق بكثافة سكّانية ضعيفة جدًا، مما يسهل عمليات التهريب خصوصا تجارة البشر والسلاح والمخدرات والعملات الأجنبية، التي تؤرق البلدين.
وقال الخبير الاقتصادي منجي المقدم في تصريح خاص للعرب إن “فايروس كورونا لا يخيف الإرهابيين والمهرّبين على حدّ السواء، حيث أنه على العكس تماما يمثّل فرصة لهم، وهو ما يفسّره فقدان عديد المواد الغذائية في الأسواق نظرا إلى تهريبها”.
وأضاف أن “هامش الأرباح بالنسبة للمهربين أصبح أكبر باعتبار استفحال المضاربة والاحتكار في الأسعار والإقبال الكثيف من الناس على المواد الغذائية والأدوات الصحية من منتجات التعقيم وغيرها، ما يدفع بالمهرّبين إلى استغلال الفرصة الظرفية لإنعاش تجارتهم”.
وشدّد الخبير على أن المهرّبين والإرهابيين يدورون في نفس الفلك من الأضرار بالاقتصاد غير أن عامل الفراغ الحالي في الحدود لن يزيد الأوضاع إلا سوءا.
ويؤكد المتابعون لمسألة التهريب بين البلدين أنّ التجارة الموازية ساهمت في دخول عدد من الإرهابيين العائدين من بؤر التوتر إلى تونس، كما كشفت وزارة الداخلية التونسية في مرات عديدة عن مخازن للأسلحة، بعضها تحت الأرض، متأتية من عمليات التهريب عبر حدودها مع ليبيا.
ويجرّم القانون التونسي والليبي التهريب عبر الحدود حيث يفرض مرور كل العربات والشحنات على دوريات الجمارك، ولكن قلة الحضور الأمني على طول الشريط الحدودي وشبهات الفساد التي تحوم حول جهاز الجمارك تقلل من نجاح مهام حراسة الحدود.
وطالب العديد من النواب في تونس بضرورة احتواء التهريب وإدماجه في الاقتصاد الرسمي ما من شأنه تنمية الخزانة العامة للبلد، وتطويق التحرّكات غير القانونية للمهرّبين واستقطابهم إلى مربع الاقتصاد الرسمي.
وتغذّي الأوضاع الأمنية والسياسة غير المستقرة في الجانب الليبي، إضافة إلى غياب الهيكلة استفحال التهريب حيث أن هذه العمليات أدّت إلى الضغط على الاقتصاد التونسي لاسيما أنه يشمل بعض المنتجات المدعمة مثل السكر والمعجنات الغذائية والزيوت النباتية والحليب.
وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعارها مقابل انتعاش السوق السوداء وإلى المزيد من توسيع حجم العجز في الموازنة نظرا إلى ارتفاع نفقات دعمها خلال الأعوام الأخيرة، في المقابل تمّ تسجيل فقدان أغلب المنتجات من السوق الرسمية بفعل احتكارها في مراكز تخزين معدّة للتهريب وفق بيانات حكومية.
ولم يسلم الجانب الليبي من تداعيات التهريب وخاصة ضمن قطاع المحروقات، إذ قدّرت شركة البريقة لتسويق النفط في أحد تقاريرها، كميات الوقود التي جرى ضبطها قبل تهريبها إلى دول الجوار، وفي مقدمتها تونس، بأكثر من 25 مليون لتر.
وكان رئيس لجنة أزمة الوقود والغاز المقال، ميلاد الهجرسي، أكّد خلال عام 2018 أن “نحو 40 في المئة من احتياج السوق المحلي التونسي يُجرى تغطيته من الوقود الليبي المهرّب”. وتحدثت العديد من التقارير التي نشرت من الجانبين في السنوات القليلة الماضية عن خسائر اقتصادية كبيرة دفعت بالبلدين إلى اتخاذ قرارات ووضع مشاريع قوانين واتفاقيات لإنشاء مناطق للتبادل الحر للقضاء على التهريب.
ولكن خبراء يرون أن حكومات البلدين وخصوصا في ظلّ التقلبات السياسيّة والأمنيّة خيّرت التراخي وأحيانا الإبقاء على التهريب وتطويعه كذراع خفية لمراقبة النشاط الحدودي.
وتعمّقت هذه الظاهرة أكثر منذ 1988، حيث تضاعفت أنشطتها بعد أحداث ثورة يناير 2011 لانشغال البلدين بأوضاعهما السياسية والاجتماعية ما جعل الجانبين يغضان البصر عن عمليات تهريب عديدة.
وتعرّضت تونس مؤخرا لموجة من الانتقادات الشاسعة على خلفية فوز أحد كبار المهربين في الانتخابات التشريعية.
ورغم أنّ النائب الملقب بـ”كبير مهربي محافظة القصرين” الواقعة جنوب شرق تونس والبعيدة نسبيا عن الشريط الحدودي مع ليبيا، إلا أنّ وجوده تحت قبة البرلمان قد فتح مجالا لانتقاد تعامل السلطات التونسية مع قادة عمليات التهريب في البلاد، وتجاوزها لأنشطتهم غير القانونية.
وسبق واتهم نواب بالبرلمان التونسي العام الماضي شخصيات نافذة داخل جهاز الجمارك بالتهاون في مكافحة التهريب والسماح باستمرار نشاط المهرّبين مقابل مبالغ مالية أو حجز نسب من السلع.
ويوافق بعض المحللين هذه المقاربة معتبرين أن “الوضع السياسي والأمني يفرض على البلدين أن يتعمدا تسهيل عمليات التهريب الصغيرة مقابل بعض الامتيازات والأرباح كي تكون هذه العمليات فرصة للمراقبة ولمنع الخطر الداهم من تهريب الأسلحة والمخدرات والإرهابيين”.
ويرى المحللون أن ما يدعم صحة هذه الفرضية هو أنّ المئات من صغار المهرّبين الذين يعيلون عائلات كثيرة غير مستعدين لإيقاف عملهم وأرباحهم من تجارة السلع المختلفة إذا ما شدد البلدان الرقابة الأمنية للشريط الحدودي، فيكون العمل تحت رقابة الدولة حلا لاستمرار رزقهم مقابل تقديم المعلومات والحراسة واستثمار ذلك في ما ينفع مصلحة البلاد.
ومن جانب آخر تستغل الجماعات المتشددة الأوضاع في البلدين وخاصة في الجانب الليبي غير المستقرّ أمنيا، لتقيم تحالفات مع بعض التجّار لتهريب الأسلحة إلى تونس واستعمالها في ما بعد ضدّ وحدات الأمن والجيش، فقد سجّلت السلطات عديد العمليات الخاصة بتهريب الأسلحة والمخدرات عبر المنافذ الحدودية الرابطة بين تونس وليبيا.
وتمكّنت حرس الحدود التونسية بتطاوين مؤخرا من إحباط محاولة تهريب حوالي 149 بندقية صيد ونحو 110 كيلوغرامات من الفضة.
وتجبر هذه العمليات المتكررة سلطات البلدين على مزيد مراقبة مسالك التهريب “التقليدية” في مقابل ضمان الحماية من توغل الجماعات الإسلامية المتشددة وتمكّنها من بث الفوضى في البلدين.
ويخوض القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر منذ سنوات حربا للقضاء على الإرهابيين من الميليشيات المدعومة من حكومة الوفاق، خصوصا مع تدفقهم بأعداد كبيرة مؤخرا وبتشجيع تركي، ما جعل الوضع على الحدود أكثر صعوبة بالنسبة لتونس وليبيا.
كما أن البلد غير مستعد لاستقبال أعداد أخرى من الجهاديين التونسيين الفارّين من جبال الشعانبي (محافظة القصرين) ومن مواجهاتهم المستمرة مع الأمن التونسي، لذلك فإن فسح المجال أمام مهرّبي السلع والبنزين يبدو حلا مساعدا لمواجهة خطر الجهاديين.