البورتريه ليس مجرد رسم للوجوه

طلال معلا يتتبع فن البورتريه من الحضارات القديمة إلى عصر "السيلفي".
الأحد 2021/08/29
فن تغير مع الزمن (لوحة للفنان طلال معلا)

حقق فن البورتريه أو الصورة الشخصية حضورا طاغيا في مختلف الحضارات والثقافات الإنسانية شرقا وغربا، قديما وحديثا، سواء كان رسما أو نحتا أو صورة فوتوغرافية أو أي تمثيل فني آخر يكون فيه الوجه والتعبير هما الغالبان، ولا يكاد يوجد متحف أو معبد أو أثر في العالم الآن لا يحفل بتجليات عبقرية له أبدعها فنانون لهم حدوسهم ورؤاهم وأفكارهم الفنية الخاصة لوجوه شخصيات من حيوات وطبقات اجتماعية مختلفة.

في كتابه “الصورة الشخصية” يجمع الناقد والفنان السوري طلال معلّا بين رؤية الباحث والفنان التشكيلي، فيتتبع فن البورتريه منذ ظهور تجلياته على جدران المعابد والكهوف في مختلف الحضارات والثقافات وانتهاء بحاضره الآني، ليحلل ويسرد وينسج بأسلوب راق وعميق سيرة هذا الفن وتشكيلات حضوره وتطوراتها والتأثيرات التي أحاطت بأفكار ورؤى مبدعيه من الفنانين القدامى والمحدثين، كاشفا عن أبرز ما أنجزه فنانو العصور المختلفة انتهاء القرن الماضي من أجانب وعرب من تطورات فنية وجمالية.

وقد أوضح بداية أن القصد من البورتريه هو إظهار التشابه بين الشخص وشخصيته ومزاجه، وذلك بطريقة مركبة للشخص في وضع ثابت، وغالبا ما تُظهر الصورة شخصا ينظر مباشرة إلى الرسام أو المصور، من أجل إشراك المشاهد في الموضوع بنجاح، ونقل ما يجري من تبادل النظرات بين الفنان والموديل الموضوع المصور، بما تحتويه النظرات من رسائل روحية، تغني العمل الفني ظاهريا وباطنيا، وذلك ما يتجلى عادة في حدس الفنان، الذي يتم نقله من الواقع إلى اللوحة.

اللوحة والأصل

تتبع فن البورتريه منذ ظهوره

يقول معلا في كتابه، الصادر عن دار خطوط وظلال الأردنية، إن ما يراه الفنان ليس الواقع الذي يرسمه، إذ يعتبر كل من اللوحة والأصل كيانين مختلفين وإن تشابها، إلا أنهما يتعايشان في اللوحة، ويحاول كل منهما أن يبرز المعنى المقصود، فاللوحة لا تشبه كل تفاصيل الشخص المقصود “الموضوع”، بل تأخذ سمات الفنان وخصائصه الإبداعية إلى جانب الموضوع الأساسي.

حتى الألوان تبدو في الصور الشخصية كائنات حيوية، يعيش كل منها بالتضافر مع الألوان الأخرى، فتتبادل الخصائص اللونية. إنه ما يمكن أن ندعوه روح اللون، وكل ما يحمل المشاعر إلى المتلقي، الذي يلتقط الاهتزازات الموسيقية للألوان والخطوط. بعض الصورالشخصية فرحة، وبعضها تسيطر عليه الكآبة، وأخرى واجمة.. الخ، إنها قصة حياة هذا الوجه، نراها حسب المنطق الداخلي للفنان، وكذلك عبر اختيارات ألوانه المرتبطة عادة بنوعية الشخصية المرسومة، التي ترغب بتثبيت ذكرى وجودها في هذه الحياة أو في حيوات أخرى قبل أن يمحوها الوقت ويطويها النسيان.

ويتابع “هكذا نرى عمق النظرات ودلالاتها من خلال نظرة خاطفة إلى الصورة الشخصية، بشكل تفاعلي يجعلنا نكشف عن كثير من الأمور، ومنها الحوار الذي يمكن أن نجريه مع

الصورة الثابتة، وإمكانية تخيل استمرار الحوار معها على اختلاف الأزمان. بالتأكيد أن لكل فنان أسلوبه، وطريقته في رسم الصورة الشخصية أو نحتها، ولعل المقدرة والإتقان والإلمام بالتقنيات المختلفة، وبكيمياء وسحر الألوان وتكوينها ومزجها وبالمعارف والمعايير التشريحية، وسوى ذلك من الأمور التي تجعل الصور تتفوق على الواقع. أي أن اللحظة التي يتم فيها رسم وتمثيل الوجه تذهب إلى ماهو أبعد من الحرفية والمهارة، لتسحر الناظر إلى العمل الفني من مجمل الأشياء مجتمعة”.

ويضيف “فيما نرى من خلال لمسات الريشة أو القلم أو المنقاش والإزميل، والإحساس بالقدرات التعبيرية للمسات الناعمة والخشنة، المدروسة والعفوية، الحساسة والساحرة، التي تغزو الروح بمجرد مقابلتها، والوقوف أمامها في مرسم أو بيت أو صالة أو متحف، لتملي علينا كل تلك التفاصيل دفعة واحدة”.

ويتابع معلا “هكذا تغزو الصورة الشخصية صلتنا بها، مقدرين باهتمام إمكانية الفنان في التعبير عن عواطفه من خلال وجوه الآخرين، سواء كانوا من الواقع أو من الخيال.. من التاريخ أو افتراضات المستقبل، حيث يشكل الوقوف أمام اللوحة وقوفا أمام كل اللحظات، التي سلط فيها الفنان الضوء على ما يعتمل في الواقع الداخلي لموضوع اللوحة، والكشف عن جوهر الوجه، والتقاط أنفاسه، وذبذبات نظراته. ليس ذلك وحسب، بل يكفي للمتلقي أن يحس فراغيا بمقدار بعد الفنان عن الأصل من جهة، وعن لوحته من جهة أخرى. وكذلك العبور إلى أصابعه وهو يمسك الفرشاة، وكيف يمررها بين عالمين: عالم الخيال وعالم الواقع، إنه ما تتحدث عنه عيناه وهو يقلب النظر بين الشخص وبين العمل، الذي ينمو باتجاه ما ينوي إنجازه، وصولا إلى اللحظة التي يتوقف فيها عن العمل، متجاوزا تعلقه بالطريقة واللغة التي يقرأ من خلالها الوجوه”.

البورتريه قصة وجه
البورتريه قصة وجه

يوضح المؤلف أن الصورة الشخصية تمتد إلى الوجه الإنساني، أو إلى كامل الجسد، أو إلى نصفه أو ربع الجسد أو إلى مختلف الأوضاع، تمتد عميقا في التاريخ، من خلال تعبيرها عن الخصائص الفيزيولوجية والنفسية والروحية للأشخاص، تلك التي تعبر بشكل واقعي عن هذه الخصائص، أو بشكل تعبيري، وقد تركت تلك الرسوم والمنحوتات صورا عن الأزمان والأحداث والمواقف والأفكار والأماكن، صورا لأشخاص معروفين أو مجهولين، ولمن يحملون صفات مجردة، لنقل الأفكار التي يتمتعون بها بصورة دقيقة، سواء كانوا ملوكا أو أباطرة أو رجال دين أو دولة، وسواهم من الشخصيات الذين كانوا مثار اهتمام الفنون في الأزمان الغابرة، أو كانت لنساء أو أطفال أو رجال، ومن مختلف المهن والأوضاع التي تشي بأحوال تلك الشخصيات، ومواقفهم ومهامهم ومواقعهم في مجتمعاتهم أو في مرايا ذواتهم.

ويرى معلا أن الصورة الشخصية استطاعت أن تنقل لنا صور السياسيين والفلاسفة والفنانين والعلماء والكهنة والحكماء والقادة والمحاربين والبورجوازيين والشهداء.. الخ، فنقلت توصيفاتهم وملامحهم، وقد جرى من خلالها التعرف على أساليب وطرق إنجاز تلك الأعمال الفنية بحسب الأعراف المتفق عليها في كل ثقافة، أو حقبة زمنية، أو مفهوم، أو في حضارة من الحضارات الإنسانية.

 كما أن ملاحظة المتغيرات التي طرأت على طريقة إنجاز الرسوم الشخصية، يقابلها في حقيقة الأمر ما كان يجري من تغيرات اجتماعية وسياسية، مع الأخذ بالاعتبار التحولات الثقافية والتاريخية، ويمكن الاستدلال مثلا بعصر النهضة، الذي أضحى فيه البورتريه أو الصورة الشخصية على الشاكلة التي نفهمها اليوم، كونها قد وصلت آنذاك إلى أعلى درجات الإتقان الشكلي.

اللوحة والأصل كلاهما كيانان مختلفان وإن تشابها، إلا أنهما يتعايشان في اللوحة، ويحاول كل منهما أن يبرز معناه

وفي حين كانت الدولة تتراجع كانت الفنون مستمرة في تصاعدها دون أن تتأثر بالأوضاع السياسية، وذلك من خلال صعود طبقات اجتماعية أوروبية وسطى جديدة، حاولت بقوة أن تترك أثرا يدل عليها، وعلى مكانتها الاجتماعية، وهو ما حقق لها حضورا صاعدا على المستويين السياسي والاقتصادي. هذه التحولات سمحت لهذه الطبقة بالتواجد بقوة في أسواق الفن، بعد أن كانت الطبقات الأرستقراطية والأسر المالكة ورجال الدين يسيطرون على هذه السوق، ما جعل الصورة الشخصية تلقى رواجا وتكون مرغوبة أكثر من قبل، لأسباب تتعلق بإثبات المكانة الاجتماعية، والتحول لاحقا إلى رمز مهم يمكن أن يلعب أدوارا سياسية عامة في المجتمع.

ويؤكد أن الحقيقة التي تؤكدها مجمل الصور الشخصية، وفي مختلف المراحل، هي أن هذه الصور تمثل في النهاية ذاتية الفنان الذي أنجزها، وصاغها على الشكل الذي نراه اليوم كما وصل إلينا، وما يبدو في مختلف المواضيع التي يمكن تحديدها في هذه الصور هو: أهمية الجماليات التي يسعى إليها الفنان، كي تكون الصورة في الوضع المثالي الذي يتحقق عبر مقدرة الفنان النقدية، ووعيه بالبحث عن الشخصية المقصودة الكامنة في شخص الموضوع الذي يقف أمامه، والطريقة التي يستنبط من خلالها ملامحه الأساسية، إلى جانب المثيرات الروحية والنفسية والجسدية، وكل ما يؤكده المصور بالموضوع المنجز.

 إنها قضية حوار متبادل، ولعبة ثنائية، لالتقاط حقيقة الواقع، وتثبيته بكل حساسية ويقظة وإبداع الفنان ومهاراته في الولوج إلى أعماق الشخص، فالقضية ليست نقل الواقع كما هو، بل أن يترك الفنان أثرا هو حقيقة الموضوع، وهو في الوقت ذاته أسلوبه وقناعاته الجمالية.

تجديد التقنيات

Thumbnail

يلفت معلا إلى أن مجمل تطور التقنيات المعاصرة، التقليدية منها أو الرقمية ومختلف تقنيات الديجيتال، قد سخرت بمجملها لتحسين صورة الإنسان الشخصية، وتأكيد صلته بالمكان والزمان، وصولا إلى ما نعيشه في عصر صورة “السيلفي”، التي أخذت اهتماما وحيزا واسعا بين الشعوب بسبب انتشار الأجهزة والبرامج، باعتبار هذا النوع من الصور صورا ذاتية في المكان والزمان المحددين، بالإضافة إلى خاصية جديدة هي إمكانية تداولها عبر شبكات الإنترنت، التي تربط الأفراد ببعضهم البعض، وتحقق إمكانية تبادل المشاعر وطرق الحياة والوجود في المجتمعات المتنوعة.

هكذا أضحت الصور الشخصية شعبوية، برغم تاريخها العميق والممتد، والمحمول على علوم كثيرة مجاورة لفن الصورة الشخصية، في مختلف مستوياتها، كعلوم الفراسة والاجتماع والنفس والتاريخ والتطور التكنولوجي، وباقي العناصر التي تحكم فن المحاكاة والصور التي أنجزت في الماضي والحاضر، والحاجة الملحة للإنسان كي يثبت تحققه في الوجود، وتمثيل الظهورات في صور تبقي الإنسان بكل الأحوال خيالا يعبر إلينا، ليس بمعنى التمثيل المحاكي للشخصية، ولكن بمعنى ما يدفعنا لإنشاء شخصية في وعينا وخيالنا، واستكمال صورتها بعد أن تضيع معالمها في ضباب الزمن.

ويضيف أن المتفق بين مختلف الصور الشخصية كان الشبه والتماثل إضافة إلى التركيز على الوجه البشري، وتحولات هذا الوجه في تمثيل الحقيقة، سواء أكانت سماوية أو أرضية. حيث تحدد طريقة الاستخدام إضافة رئيسية لطرق إنجازها.. فصلتها الأولى بالموت بارزة بالطريقة التي نفذت فيها على التوابيت، التي مثلت حضورا “هيلينيا” قويا جعلها تكون سمة من سماته الفريدة، حيث تم رسم الأموات بشكل نصفي، أو باقتطاع الوجه ورسمه ووضعه فوق وجه الميت ليبقيه في مجال الرؤية بكافة ملامحه الحقيقية، ولكي تتمكن الروح، وفق معتقداتهم، من التعرف على جسدها.

يقود هذا إلى محاولات خروج التصوير الشخصي عن هذه التصورات لاحقا. حيث اتجه فن الصورة الشخصية لنفي “الموديل” من حضوره، باعتماد الفنانين على تخيلهم المتصل بالحالة التعبيرية، التي هي على صلة بالأحاسيس والعواطف والحالات النفسية. وهو خروج سيطال المستوى التقني أيضا، ففي حين مثل القرن التاسع عشر ضرورة الارتباط بالملامح، مثلا، وتشخيصه بدقة تشريحية، فإن ما تلاه كان يحمل توترات قادت الفنانين إلى إبراز الأبعاد الدرامية المتصلة بحالة الموضوع المرسوم عبر الوجه الإنساني. وهذا ما رافق إنجاز صور شخصية بقلم الرصاص أو الفحم بعيدا عن الألوان، لتبدو خطوطهم حاملا سحريا لتقاسيم لم يكن مستحبا الاعتماد عليها في ما سبق، ما سمح بقراءة بصرية على صلة بالحركة، أو عدم الاستقرار في الكادر، وفي إطار يشبه التدريبات المتلاحقة التي ستعود مطلع القرن الماضي لتشكل شبكة تفكير بعض رسامي الصور الشخصية أمثال بيكاسو الذي كسر الكثير من قواعد فن رسم الصور الشخصية، وبخاصة ما كان مرتبطا بخصائص الطبقات الاجتماعية وفعالياتها.

وترك بيكاسو لعبقريته المجال كي تجول في أنحاء عصره، متجاوزا جغرافيته إلى القارة الأفريقية، ليعيد صلة هذه الأعمال بالموت مرة أخرى. وليعيد الكثير من المفاهيم إلى سطح العمل الفني، بجمعه حالة الوجه الأمامي مع الجانبي في وجه واحد. فالمعروف أن الفراعنة كانوا يرسمون وينحتون الوجه من زاوية جانبية في الحالة الطبيعية.. في حين اقتصرت الصور الجبهية في منجزهم على الأجانب والشياطين والمخلوقات الغريبة.

بيكاسو كسر الكثير من قواعد فن رسم الصور الشخصية
بيكاسو كسر الكثير من قواعد فن رسم الصور الشخصية

 

14