البلطجة الترامبية وغياب الدبلوماسية

تصريحات ترامب هي الوجه الحقيقي للعالم وهذا النزال المريب المفاجئ في البيت الأبيض كان الحقيقة التي لطالما تم إخفاؤها عن العامة ولا بأس في أن يكشف هذا العالم عن ملامحه الحقيقية.
الجمعة 2025/03/07
تعددية الأقطاب وهم

يعاني العالم اليوم من مشكلة واضحة ومعضلة خطيرة تتمثل في غياب أسس وقيم عادلة قادرة على برمجة الوعي الجمعي البشري بطريقة سليمة لإنشاء مجتمعات محترمة مسالمة وأفراد قادرين على التعايش في ما بينهم. يبدو أن العالم يواجه تحديات هائلة تتعلق بهشاشة المبادئ الإنسانية وحقوق الأفراد، في وقت تنعدم فيه آليات تطبيق القانون والالتزام بالاتفاقيات الدولية.

إن غياب القانون وغياب الاحترام المتبادل للقانون “الإنساني” الذي يضمن لكل فرد، وشعب، ودولة الحقوق بأكملها والحق في الحياة الكريمة، وتقرير المصير، والدفاع عن النفس، بات يتجلى في أفظع الصور والخطابات الترامبية بشكل خاص. الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي اختار أن يتخلى عن كل طاولة حوار، ويفرض رؤيته وقراراته، ونهجه الأحادي في إنهاء الأزمات، ورسم حاضر الشعوب ومستقبلها، بنهج يتسم بالبلطجة معتمدًا على تفوق بلاده العسكري، الاقتصادي، والتكنولوجي، ليتجاهل القيم الإنسانية العادلة القائمة على احترام الآخر، وحق الشعوب في الدفاع عن حدودها، مواردها، ثقافتها، والتي من المفترض أن تمثل ركيزة السلام الدولي. فترامب لا يكترث إلا بـ”أميركا أولاً.. ومن بعدي الطوفان،” بعيدًا عن أي اهتمام بمبادئ التعاون والاحترام المتبادل.

ويتمثل ذلك مؤخرًا في الصراع الهزلي المؤلم الذي شهده العالم في البيت الأبيض والمناوشات العلنية بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ترامب يريد السلام القائم على إخضاع الأضعف، وإذلال من يراهم يمتلكون قدرات أقل، وأوراق مساومة أوهن. ترامب يصف نفسه بأنه رجل سلام، وما هو إلا رجل أعمال يساوم على خيرات الشعوب، ويقامر على حياة الملايين من الأرواح والدول والمناطق التي ليست أقل أهمية منه.

صراع العالم يتعاظم ويتجلى أكثر بطريقة موحشة وممزوجة بنظرة فوقية. بات القوي يغلب الضعيف، من يملك القوة ينتصر على المتأخر تقنيًا، وتكنولوجيًا، واقتصاديًا وعسكريًا. ومن لا يملك مشروعًا واضحًا قويًا، وتحالفات قوية سيبقى في طي النسيان، وسيبقى تابعًا.

◄ لا بد من تكثيف الجهود للبحث عن حلول أكثر إنسانية ومؤثرة بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة والمصالح الاقتصادية الجشعة، حتى نبدأ بإعادة برمجة العالم بطريقة أكثر استقامة، خاصة في ظل نظام عالمي يدّعي البعض أنه متعدد الأقطاب

لعل تصريحات ترامب هي الوجه الحقيقي للعالم، وهذا النزال المريب المفاجئ في البيت الأبيض كان الحقيقة التي لطالما تم إخفاؤها عن العامة. ولا بأس في أن يكشف هذا العالم عن ملامحه الحقيقية، بدلاً من الاختباء طوال عقود طويلة سابقة خلف قوانين دولية عاجزة عن إنقاذ قرية، ومؤسسات حقوقية لم تستطع منذ تأسيسها إيقاف حرب واحدة، وبدلاً من استشارات قانونية دولية لم تُعد حقًا، ولا أرضًا، وكانت عاجزة عن إخراج احتلال من دولة، بدلاً من مؤسسات دولية أثبتت أنها لم تكن سوى استنزاف لهذا العالم بتكلفتها هي ومندوبيها من أموال طائلة، لترتيل خطابات هشة، وتتحول في النهاية إلى أدوات عاجزة عن احتواء الأزمات والمآسي، من الفقر، التشرد، النزوح، البطالة، الأمراض المتعاظمة.

هؤلاء الذين يتعاملون مع العالم بحسب مصالحهم، دون اكتراث لأيّ مسؤولية أخلاقية إدارية أو قيم إنسانية من العدالة، النزاهة والشفافية، كُثر. وترامب ليس الاستثناء في العالم، وليس فريدًا من نوعه، هنالك مليارات من ترامب. وأولئك الذين لا يملكون هيكلة أخلاقية واضحة، ولا وعيا عاطفيا متطورا، ولا قضايا عادلة، ولا احتراما للحد الأدنى من القوانين الإنسانية والأخلاقيات هم سبب الشيطنة المتمددة المتعاظمة في العالم.

الأسس الإنسانية التي تغيب عن السياسة العالمية اليوم تضعنا أمام تساؤلات حاسمة: كيف يمكن إعادة التوازن للعالم؟ وهل يمكن للظلام الذي يعشش في مفاصل سياسات العالم أن يُزاح بالقوانين الدولية أو طرق أخرى؟ يبدو أن البشرية تجاوزت لحظات التنوير، لتعود إلى مرحلة متجددة من العتمة البشرية، حيث يزداد العالم انقسامًا ويغرق في الأزمات الإنسانية، بينما الفجوة تتعاظم بين الواقع المفقود المتمثل في توازن بين النور والظلام. لذا، السؤال يطرح نفسه، هل يوجد أمل في إعادة بناء النظام الدولي بطريقة أكثر احترامًا للقيم الإنسانية؟ كيف يمكن إصلاح العطب الأخلاقي والفكري الذي نهش البنية القيمية والهيكلية الإنسانية في العالم؟ كيف يمكن أن يتعافى العالم من التشظي والاستنزاف؟ وكيف من الممكن ألا يكون صوت العالم متمثلاً في ترامب وسياسته؟

هذا الشرخ العظيم لم يتمثل فقط في الحروب الموجعة التي أودت بحاضر الملايين ومستقبلها إلى الهاوية، بل تجسد قبل ذلك، وربما كشف عن وجهه في فترة كورونا، التي غيرت ملامح التعاملات بين الدول والأفراد، والشركات، والتي غيرت من مسار القوة الاقتصادية للدول، وحمّلت الأفراد أعباء أكبر. وسنحت الفرصة للتعامل بالبلطجة لاحقًا بشكل أفظع.

كيف يمكن أن يتعافى هذا العالم من الشرخ الأخلاقي الذي أصابه وبات داء الفساد القيمي والهشاشة الفكرية وانقلاب موازين الخطأ والصواب في تحديد الأخلاقيات أمرًا عالميًا؟ كيف يمكن أن نعيد الدبلوماسية السياسية للعالم، إلى حيث هناك شد وجذب، صداقة وعداوة، رقص متناغم بين أطراف متعددة، دون أن تكون هناك هيمنة واحدة.

لا بد من تكثيف الجهود للبحث عن حلول أكثر إنسانية ومؤثرة بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة والمصالح الاقتصادية الجشعة، حتى نبدأ بإعادة برمجة العالم بطريقة أكثر استقامة، خاصة في ظل نظام عالمي يدّعي البعض أنه متعدد الأقطاب، لكن مع التحالفات السياسية المختلفة الجديدة، وتغير خارطة المصالح السياسية والاقتصادية اليوم في العالم، هل فعلاً العالم متعدد الأقطاب، أم أن تعددية الأقطاب ليست سوى وهم، وكل الأطراف تنتمي في النهاية إلى محفل واحد، ومجلس واحد تحكمه نفس القوى، بينما الأمر كله يصب في تقسيم الغنائم والمصالح في ما بينهم؟

9