البكتيريا "المبرمجة" جينيا تبشر بثورة علمية واقتصادية

شركة "بيفوت بيو" الأميركية، تمكنت من طرح أول منتج مكروبي لها في السوق كخطوة أولى لاستبدال الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية التي لها عواقب بيئية خطيرة.
الثلاثاء 2019/10/01
العلماء حسنوا العديد من سلالات البكتيريا لدعم الصحة والزراعة

أثمرت جهود العلماء في مجال البيولوجيا التركيبية في العقود القليلة الماضية، استراتيجيات جديدة في معالجة العديد من الأمراض بأساليب أكثر دقة. وبالتوازي مع ذلك استطاعوا أيضا الوصول إلى دعائم أكثر فعالية في مجال الزراعة المستدامة، وتوفير الطاقة النظيفة والمعادن. وذلك عن طريق “برمجة” البكتيريا وإدخال تغييرات جينية على شفرتها الوراثية لتعزيز وظائفها وإجبارها على أن تكون أكثر نفعا للبشرية. ويبدو أن أقدم الكائنات الحية الدقيقة تحمل بين جيناتها فوائد صحية واقتصادية وبيئية واسعة النطاق تدعم بها الكثير من المجالات العلمية والاقتصادية.

مثلت البكتيريا لأكثر من سبعة عقود مصدرا مهما للمنتجات الطبيعية النشيطة بيولوجيا وقد تم تطوير بعضها في نهاية المطاف إلى أدوية لعلاج الالتهابات والأمراض المرتبطة بالسرطان والجهاز المناعي.

 ومع التقدم الأخير في التكنولوجيا الحيوية وعلم الأحياء المجهرية، أثمرت جهود الكيميائيين والمهندسين وأخصائيي الأحياء الدقيقة في هندسة وتحسين العديد من سلالات البكتيريا لدعم الصحة والزراعة والصناعة بأساليب صديقة للبيئة.

وفي المجال الطبي، تم استغلال البكتيريا من قبل البشر في إنتاج العديد من العقاقير الطبية وأهمها المضادات الحيوية منذ اكتشاف البنسلين سنة 1929 وتطوير صناعته سنة 1942. ويعد تحسين السلالات المنتجة وبرمجتها هدفا أساسيا في مجال علم الأحياء الدقيقة الصناعي.

 وهناك العديد من التطبيقات المثيرة للاهتمام قيد التطوير، وعلى سبيل المثال يحاول العلماء تحوير سلالة من بكتيريا الأمعاء لمعالجة مرض السمنة الذي قد يكون وفقا لجمعية أبحاث السرطان البريطانية، السبب المحتمل للإصابة بسرطانات الأمعاء والكلى والمبيض.

 ويجد البعض صعوبة بالغة لخسارة الوزن رغم اتباع حميات قاسية، ولا توجد أي مكملات “معجزة” من شأنها أن تعطي فوائد لفقدان الوزن على المدى الطويل. وليس هناك الكثير من الأدوية المعتمدة التي بمقدورها أن تعالج بفعالية حالات السمنة وأمراض التمثيل الغذائي ذات الصلة، إلا أن العلماء أحرزوا تقدما في هذا المضمار. وأثبتت التجارب الأخيرة أن التعديل الجيني لنوع من البكتيريا التي تستوطن الأمعاء البشرية يمكن أن يعالج السمنة في الفئران.

نصف إمدادات الغذاء في العالم على الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية
نصف إمدادات الغذاء في العالم على الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية

وتؤوي أمعاء الإنسان ما يقارب 100 تريليون جرثومة يطلق عليها “النبيت الجرثومي المعوي”، تقدم معظمها العديد من الخدمات المفيدة من حيث الهضم والقضاء على مسببات الأمراض. وتختلف من شخص إلى آخر ويتأثر تنوعها بالعوامل البيئية والوراثية والأنظمة الغذائية وأنماط الحياة.  وفي دراسة تم نشر نتائجها في مجلة التحقيقات السريرية، قامت مجموعة من الباحثين بقيادة شون ديفيس من جامعة فاندربيلت بولاية تينيسي الأميركية بتغيير جيني لسلالة من البكتيريا المعوية، وإضافتها إلى مياه الشرب لدى فئران تم إطعامها حمية عالية من الدهون على مدار ثمانية أسابيع. فلاحظ العلماء فقدان الوزن لدى الفئران واستهلاكها كميات أقل من الطعام. وقد خلصت الدراسة إلى أن هذه البكتيريا المعدلة تمنع زيادة الوزن حتى بعد مرور أكثر من شهر على انتهاء العلاج، ويأمل العلماء في أن تنجح هذه الاستراتيجية في علاج السمنة التي تعدّ من الأمراض المعقدة لدى الإنسان.

ويسعى العلماء إلى تعميق فهمهم للعديد من التجمعات البكتيرية علها تساعدهم في إنتاج علاجات لأمراض مستعصية كالأورام السرطانية.

وفي دراسة نشرت في مجلة “نيتشر ميدسين” أفاد علماء من جامعة كولومبيا أنه بإمكان البكتيريا المعدلة أن تكون سلاحا جديدا يضاف إلى العلاجات الجراحية والكيميائية والإشعاعية للأورام السرطانية ولكن بشكل أكثر دقة ودون آثار جانبية.

ووفقا للدراسة، تمت برمجة نوع من بكتيريا “الإشريكية القولونية” غير المسببة للأمراض، كي تستعمر الأورام في الجسم وتطلق أجساما نانوية تنبه الجهاز المناعي بوجود خلايا سرطانية. وقد استخدم العلماء هذه الطريقة لتدمير الأورام لدى الفئران. ويأمل الفريق البحثي أن تعمل هذه الآلية الجديدة المعتمدة على البكتيريا المحوّرة في التجارب السريرية على البشر.

أما في المجال الزراعي، الذي لا يخلو من الآثار السلبية على البيئة، حيث يتمّ استخدام كميات كبيرة من المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية التي من شأنها إتلاف التربة وتلويث الماء والهواء، فإن الشركات تسعى من خلال الابتكار العلمي لتوفير حلول للمزارعين تساهم في جعل الزراعة أكثر إنتاجية مع تحقيق أقلّ قدر ممكن من الأضرار البيئية.

وفي هذا الإطار، تمكنت شركة ناشئة “بيفوت بيو”، تقع في بيركلي من ولاية كاليفورنيا، تأسست سنة 2011، ومتخصصة في علم الأحياء الاصطناعية وتعمل على الميكروبات المنتجة للنيتروجين، من طرح أول منتج مكروبي لها في السوق في سنة 2019 كخطوة أولى لاستبدال الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية التي لها عواقب بيئية خطيرة تتمثل في تلويث الماء والهواء.

وقد وجد خبراء الشركة بكتيريا لتثبيت النيتروجين تطورت لتعيش على جذور الذرة. وقاموا بتعديل جيناتها كي لا تتوقف عن عملها المثبت للنيتروجين حتى عندما يكون هناك نيتروجين وفير في التربة. وتوجد علاقة تكافلية بين الذرة والبكتيريا، فعندما تبدأ الذرة في النمو ترتبط البكتيريا بجذورها ثم تتغذى على السكر في الجذور وتحول النيتروجين في الهواء إلى شكل يمكن أن يستخدمه النبات كسماد لينمو، ويطلق على هذه العملية تثبيت النيتروجين.

وتقول سارة بلوخ المديرة المساعدة للبحوث في الشركة إن الزراعة أزعجت هذا التوازن بإضافة كميات متزايدة من النيتروجين الاصطناعي إلى التربة. وتضيف “نريد حلا لمشكلة معينة وهي الآثار السلبية للنيتروجين الاصطناعي على البيئة”.

ويعتمد نصف إمدادات الغذاء في العالم على الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية وتسهم في تدهور نوعية المياه في البحيرات والجداول. وهناك حوالي 500 منطقة ميتة في المحيطات في سائر أنحاء العالم نتيجة الاعتماد المكثف على الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية.

والتي تتحلل إلى أكسيد النيتروز المسؤول عن حوالي 5 في المئة من الاحتباس الحراري العالمي، وتمنع القدرة الطبيعية لميكروبات التربة على إنتاج النيتروجين الذي يغذي المحاصيل الزراعية.

ولدى شركة “بيوت بيو” مجموعة من المنتجات قيد التطوير وتشمل الجيل القادم من الميكروبات المنتجة للنيتروجين لمحاصيل الذرة ومنتجات القمح وفول الصويا والأرز. وستتوسع الشركة خارج الولايات المتحدة لتشمل مناطق أخرى من العالم بما في ذلك أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية.

أمعاء الإنسان تختلف من شخص إلى آخر ويتأثر تنوعها بالعوامل البيئية والوراثية والأنظمة الغذائية وأنماط الحياة
أمعاء الإنسان تختلف من شخص إلى آخر ويتأثر تنوعها بالعوامل البيئية والوراثية والأنظمة الغذائية وأنماط الحياة

ويقول كارستين تيم المؤسس والمدير التنفيذي لشركة “بيوت بيو”، إن “الشركة تركز على الذرة والقمح والأرز لأن هذه المحاصيل الثلاثة تستهلك نصف النيتروجين في العالم، وهدف الشركة تقليل الاعتماد على الأسمدة لما لذلك من فوائد بيئية واقتصادية على حدّ سواء”.

إضافة إلى ذلك، يهتم العلماء بالبحث عن مصادر جديدة للطاقة المتجددة والمستدامة بعيدا عن تلك المسببة لتلوث الماء والهواء. وينمو الاهتمام حول أحد مصادر الطاقة المحتملة والمتمثل في البكتيريا. فهل يمكن تسخير هذه الكائنات المجهرية لتكون مستقبلا مصدرا للطاقة ومفتاحا لحل مشكلة التلوث البيئي الذي يعد من أكبر التحديات التي تواجه القطاع؟

 في السنوات الأخيرة، حاول العلماء التقاط التيار الكهربائي الذي تولده البكتيريا من خلال عملية التمثيل الغذائي، ولكن نقل التيار الكهربائي من البكتيريا إلى القطب المتلقي كان غير فعال للغاية. ولكن في جامعة لوند السويدية أحرز الباحثون مؤخرا تقدما في هذا المجال وتمكنوا من نقلٍ أكثر كفاءة. ويوضح لو غورتون، أستاذ الكيمياء في جامعة لون، “نلتقط الإلكترونات من البكتيريا وننقلها إلى أقطاب كهربائية، وهذا يتيح لنا الحصول على التيار الكهربائي من البكتيريا في الوقت الحقيقي”.

وتكمن صعوبة استخراج الطاقة في إنتاج جُزيء يمكنه الوصول إلى جدار الخلية السميك للبكتيريا لاسترداد الإلكترونات بشكل أكثر كفاءة. وقد تمكن الباحثون في جامعة لوند من ابتكار جزيْء اصطناعي يعرف باسم “بوليمر الأكسدة والاختزال” لهذا الغرض. وشملت الدراسة “المعوية البرازية” وهي بكتيريا معوية شائعة موجودة في كل من الحيوانات والبشر.

وتعد نتائج الدراسة ذات أهمية ليس فقط لإمكاناتها في ما يتعلق بالطاقة الكهربائية المستقبلية وإنما أيضا لتزيد من فهم كيفية تواصل البكتيريا مع محيطها.

وتركز العديد من الأبحاث على تطويع البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة الأخرى لإنتاج وقود حيوي. وأجرى باحثون في بريطانيا تعديلات وراثية على بكتيريا تسمى “إي كولي” لتحويل السكر إلى وقود يتطابق إلى حد كبير مع الديزل التقليدي، وعادة ما تستهلك هذه البكتيريا السكر وتحوّله إلى دهون.

17