البعثات الفنية مبادرة سعودية جديدة وسط تخوف من غياب المعايير

يقف الفنانون التشكيليون السعوديون أمام مبادرة وزارة الثقافة السعودية، المتعلقة بإقامة الفنان، متسائلين عن الآلية التي يجب أن تتخذها في اختيار الفنانين، بحيث تكون الاختيارات عادلة تنم عن فهم ومعرفة لتاريخ الفنانين ولإمكانياتهم، وتضمن ألا تقع الوزارة -شأنها شأن مؤسسات أخرى- في فخ المحاباة أو القبلية التي يخشى الفنانون أن تقدم للصفوف الأولى مجموعة أسماء فنية لديها شبكة علاقات عامة ستؤهّلها لذلك على حساب الفنانين من ذوي الطاقات والمواهب الحقيقية.
نفّذت وزارة الثقافة السعودية مبادرة “إقامة الفنان” التي كانت قد أطلقتها مع حزمة من المبادرات في مارس الماضي، وبحسب تصريح الوزير فإن جزءاً من أهداف المبادرة توفير فرص التدريب وتبادل الخبرات بين الفنانين السعوديين ونظرائهم الدوليين داخل وخارج المملكة.
وبدأت الوزارة في سبتمبر الماضي نشاط المبادرة بإرسال فنانتين إلى فرنسا للبدء في دراسة الفنون المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في مدرسة لوفغنوي في مدينة توركوان بفرنسا، كما تواصلت الوزارة مع عدد من البرامج التدريبية والتعليمية في العالم لاختيار ما يناسب رؤيتها وتوجهاتها، كما أن اتفاقية التعاون بين الوزارة ومدرسة لوفغنوي تقضي بإرسال فنانين من عام 2019 حتى عام 2021 للدراسة فيها، على أن تنهي كل مجموعة دراستها في سنتين.
وأوضحت الوزارة بأن كل فنان سيحصل على شهادة علمية موازية للماجستير تحت اسم شهادة مدرسة لوفغنوي. وستقوم الوزارة في سياق مبادرة “إقامة الفنان” بإرسال فنانين آخرين إلى مدارس عالمية أخرى للدراسة والتدريب في مجال الذكاء الاصطناعي وغيره في برامج علمية تمتد لستة أسابيع.
أمراض الشللية
في هذا الشأن يقول الفنان مشعل العمري “رغم الإصلاحات المتوالية التي ترتقي أحيانا إلى مستوى المفاجآت السارة من قبل وزارة الثقافة، إلا أنني أرى أن الأهم من تلك المبادرات هو وضع النظم والقواعد التي تصنف الفنانين وتصف مهنة الفنان وتقدر حجم موهبته، حيث ما زلنا نفتقد إلى تحديد وتصنيف الفنانين ومعايير ووصف صفة الفنان أو مهنته لتجنب الوقوع في مخاطر انعدام الحيادية عند اختيار أسماء الفنانين لتنفيذ تلك المبادرات والاستفادة منها”. ويضيف “إن من أصعب مهام القائمين بالوزارة على تلك المبادرات تنفيذ مبدأ العدالة والاختيار الأمثل للمواهب والطاقات الفنية التي ستنفذ من خلالها المبادرات وتستفيد منها وتجنب الوقوع في أمراض الشللية والمناطقية والقبلية التي تتفشى بشكل سريع في ثقافتنا وتعطب بعض مثقفينا هذه الأيام”.
ويرى العمري أن “تطبيق مبدأ المواطنة الحقة عند الاختيار والنظر بعينين ‘خضراوين’ إلى شباب الوطن من الفنانين بمختلف المناطق وترك مهمة الاختيار للمؤهلين أكاديميّا من الخبراء بالجامعات السعودية ومراكز البحوث وبعض المطلعين جيّدا على حركتنا التشكيلية من الفنانين القدامى والباحثين، سيطلق الكثير من الطاقات والمواهب الثقافية والفنية وسيجعل وطننا الغالي في مقدمة البلدان ثقافيّا وفنيا ويمنحه القوة الناعمة التي يستحقها ويسعى إليها تحقيقًا لرؤية 2030”.
من جهتها أبدت الفنانة تغريد البقشي سعادتها بالمبادرة التي اعتبرتها “جبارة”، فهي استثمار في الفن ضمن خطط هادفة تنمي القاعدة التشكيلية والبصرية، وهو أمر سيكون له مردود للأجيال الفنية القادمة.
وترى البقشي في حديثها مع “العرب” أن المبادرة حلم لكل فنان وفنانة، فمن أهم المشاريع لأي فنان تطوير الذات، سواء على المستوى الأكاديمي أو الفني أو العلمي. تقول “نحن نفتقر في الحقيقة إلى هذا النوع من المبادرات، ووجودها في الساحة الفنية في المملكة هو مطلب لكل فنان، ولا أعتقد أنه لو عرض على فنان الترشيح أنه سيرفض، فهذا حلم يثري الساحة الفنية، فساحتنا الفنية بحاجة إلى التطوير العميق من الجذور ليشمل اللغة وطريقة التفكير والأسلوب والمنهجية والخارطة الذهنية”.
الأهم من تلك المبادرات هو وضع النظم والقواعد التي تصنف الفنيين وتصف مهنة الفنان وتقدر حجم موهبته
وعن آلية الاختيار تؤكد البقشي على ضرورة إيجاد برنامج للمعايير، بحيث لا تكون الاختيارات عشوائية، وإنما خطة معلنة من قبل الوزارة حتى تكون هنالك فرصة للجميع للمشاركة والاستفادة من المبادرة.تقول “لو نشرت هذه المعايير فإن الفنانين سيكونون حريصين على استيفائها، حالها حال التقدّم إلى الجوائز، فبعض الفنانين الجادين قد لا تتوفر لهم فرصُ الابتعاث للدراسة”.
وتضيف البقشي “حينما كنا نحاول التقدّم إلى برامج الابتعاث الخارجي للدراسة في مجال التربية الفنية كانت كل المجالات متاحة للابتعاث إلا مجالات الفنون. فلا يوجد ابتعاث خارجي للفنون في وزارة التعليم العالي، الأمر الذي زرع لدينا الإحباط وخيبات الأمل، وجعلنا نتساءل: لماذا لا يوجد ابتعاث وتطوير للفنون؟ الأمر الذي انعكس على المناهج الفنية الخالية من التطوير، فهي كما كانت منذ عقود، حيث الروتين والنزعة التقليدية والثبات. حتى حينما جددوها بقيت غير قادرة على التطوير وعلى خدمة الساحة التشكيلية، فلا يمكن للطالب أن يكون فنانا تشكيليّا، لأن المادة المقدمة ركيكة جدا، فنحن بالفعل محتاجون إلى التأسيس من الصفر”.
وتأمل البقشي ألا تكون هذه المبادرة مجرد برنامج واحد، بل مجموعة برامج ومنهجيات لا تكتفي بباريس، وإنما تتوزع على مناطق الفنون العالمية، بحيث تكون الفائدة شاملة، مؤكدةً على ضرورة استثمار الوزارة للفنانين الذين سيبتعثون، حيث يجب نقل خبراتهم التي تعلموها إلى بقية الفنانين بعد الانتهاء من البرنامج، تقول “إذا لم ينقل الفنان خبراته أجد أنه لا فائدة من المبادرة”.
آليات الاختيار
بصورة تدعو إلى التفاؤل حيال الوزارة يرى الفنان سعيد الجيراني أن وزارة الثقافة تعمل جاهدة بخط موازٍ لرؤية المملكة العربية السعودية 2030، وهذا يحتم عليها أن تكون جاهزة في دعم أحد أهم روافد التنمية وبناء الإنسان المبدع وإبراز جوانبه الثقافية والفنية ليخدم بها وطنه الكبير المتنوع بثقافاته وفنونه.
يقول الجيراني “دور وزارة الثقافة سيكون أكثر تركيزا وأكثر فاعلية، وهذا ما نستشعره حاليّا من جهود كبيرة ومبادرات تعمل عليها الوزارة بشكل جدي لخلق مناخات ثقافية ذات مستوى عالٍ من الحرفية والإتقان. والأيام القادمة كفيلة بإثبات مرئياتها”.
ويضيف الجيراني “يعد فصل وزارة الثقافة عن وزارة الإعلام من القرارات الحكيمة والذكية لسرعة تنفيذ العديد من التوصيات والمشاريع والتفرغ لها بالشكل المناسب، وهذا سيساهم بلا شك في تركيز الجهود ومضاعفتها لخدمة وتنمية المواهب عند الجميع دون تمييز، كقرار الابتعاث الثقافي والإقامة الذي نعتقد أنه يشمل أشخاصا من ذوي المواصفات التي تستحق الدعم لخبراتها الواضحة محليّا ولإسهاماتها الجلية في تخصصها لتصقل من خلال الابتعاث بالمعرفة والاطلاع والممارسة على يد أصحاب التخصص. وهذا سيساعد على نقل الخبرات العالمية من خارج المملكة إلى الداخل، ومن ثَم الإسهام في خدمة المبدع السعودي، وتطويره داخليّا. وهذا هو المؤمل من الوزارة. والواضح، من خلال دراساتها المستفيضة التي حددت من خلالها 16 قطاعا ثقافيًّا رئيسيّا، أنها تعمل جاهدة وبإنصاف حتى تطال غالبية المبدعين السعوديين من صناع الفن والثقافة بكل شمولية واتساع”.
وتتفق الفنانة سكنة حسن مع الجيراني في القول إن الإقامة الفنية والبرامج التعليمية داعم عظيم لأي فنان وسط الإمكانيات الفنية في المملكة، والتي تعتمد في أغلبها على التعليم الذاتي والاجتهادات الشخصية للفنانين. وهذه المبادرة قد تورث المعرفة والحرفية للأجيال القادمة بكل تأكيد. ولكن سكنة حسن تتساءل، وهي في حالة ذهول، عن سبب عدم معرفتها بهذه النشاطات وعدم ظهورها بشفافية للفنانين؟
وتستأنف سكنة حسن حديثها عن آلية الاختيار متسائلة “هل الاختيارات تصب في قالب فنان متمكن تعول عليه الوزارة؟ لمن ستقدم الوزارة الفرص على طبق من ذهب؟ وهل طموحاتنا كفنانين مجتهدين قيد الانتظار؟ التعليم والمعرفة هما مرآة للشعوب، والمملكة العربية السعودية أثبتت أن لها أصالة فريدة من نوعها بنوعية إنتاجاتها وفنانيها. لذلك حين تقدم الوزارة هذا الدعم فهو منطقة آمنة للفنانين ولمستقبل الفنون بشكل عام، حيث ستتاح الفرص في أمرين مهمين؛ الأول استيراد وتصدير الخبرات بين الفنانين، حيث تدعم مشاركات الفنان خارج بلاده. والثاني استثمار هذه الخبرات من قبل الوزارة في تأسيس برامج تعليمية لفناني المستقبل. وأيضا علينا ألا نغفل أن الشعوب التي استطاعت أن تستثمر في الفنون والثقافة هي دول أنفقت من ميزانيتها للفنانين ليصبحوا
أصحاب خبرة، ينقلون ثقافتهم إلى كل العالم”.