البرامج المصرية تتغاضى عن المعايير المهنية باستقطاب الجمهور عبر الإثارة

تعتمد العديد من القنوات المصرية على الإثارة لاستقطاب الجمهور والإعلانات ضاربة عرض الحائط بالمعايير المهنية وضوابط مجلس الإعلام وفي كل واقعة تتحرك نقابة الإعلاميين متأخرة لتبييض ماء وجهها وتحاول إقناع المشاهدين بأنها موجودة وحاضرة ولديها صلاحيات في الرقابة والمحاسبة.
القاهرة - لم يمر شهران على إعلان مجلس تنظيم الإعلام في مصر عن كود خاص لضيوف البرامج التلفزيونية، حتى أقدمت إحدى الفضائيات على استضافة “بلوغر”، لتتحدث عن خبايا حياتها الشخصية وفيديو إباحي نُشر لها مؤخرا، وكيف تسبب ذلك في المزيد من شهرتها، ما أثار صدمة للرأي العام من حجم الفوضى الإعلامية.
وأظهر قرار نقابة الإعلاميين المصريين وقف الإعلامية ياسمين الخطيب عن الظهور على شاشات التلفزيون لأي درجة وصلت حالة الارتباك التي تعاني منها النقابة كجهة مسؤولة عن أداء العاملين في الوسط الإعلامي بعدما أعلنت أن الخطيب سبق وقفها عن ممارسة نشاطها الإعلامي، ولم تحصل على رخصة مزاولة المهنة.
وأثار قرار النقابة حفيظة البعض الذين سخروا من المبرر الذي ساقته بأن المذيعة اعتادت ارتكاب مخالفات، وتم اكتشاف أنها تخالف ميثاق الشرف الإعلامي بعد أن ارتكبت خطأ جسيما في برنامجها الذي تقدمه على فضائية “النهار”، وأن هذه ليست المرة الأولى التي يتم وقفها عن العمل والتحقيق معها خلال مسيرتها.
واستبقت شبكة قنوات النهار قرار النقابة بإعلان اعتذارها للجمهور عن عرض حوار مع البلوغر هدير عبدالرازق في برنامج “شاي بالياسمين”، وقررت حذف الحلقة من جميع منصاتها الإلكترونية، وفتح تحقيقات حول نشر محتوى الحلقة، مؤكدة تمسكها بالقيم والعادات.
وبينما أثنى البعض على موقف القناة، لكن كثيرين رأوا في تصرفها محاولة لتخدير الجمهور، لأنها قررت فتح التحقيق في محتوى حلقة يفترض أنها روجعت من قبل بثها ونشرها، لأن خروج الضيوف في الفضائيات المصرية يكون بشروط صارمة، مع مراجعة دقيقة ومسبقة لطبيعة الأسئلة التي ستُطرح، والقضايا محل النقاش.
كما أن حذف محتوى الحلقة من منصات القناة لم يكن بتصرف ذاتي منها، بل جاء عقب موجة غضب واسعة على الفضاء العام، من مضمون الحوار نفسه، حيث تطرق إلى قضايا شديدة الخصوصية، وظهرت الضيفة كأنها استفادت من نشر فيديو إباحي لها، بجماهيرية جديدة وزيادة عدد المتقدمين للزواج منها.
وجلبت الحلقة التلفزيونية ردود فعل حادة ضد الإعلام المصري دون أن يقتصر الحديث على الحوار ذاته، باعتبار أن الكثير من المنابر الإعلامية غرقت في الفوضى، في غياب من الجهات المعنية بإدارة المنظومة لمنع تكرار المخالفات أو تصويب مسار البرامج الحوارية.
وأمام تصاعد الغضب، خرجت مذيعة البرنامج لتؤكد عبر صفحتها الرسمية بموقع فيسبوك أن هدف فريق البرنامج لم يكن إثارة الجدل، إنما لفت النظر لظاهرة مرفوضة مجتمعيا – رغم رواجها – وهي نجومية فتيات تيك توك، المرتكزة على الابتذال والإثارة.
وأضافت الخطيب “لم تُستضف هدير عبدالرازق بصفتها نجمة، بل حالة كان الهدف من عرضها التأكيد على ندمها على أفعالها، لكن السواد الأعظم من الجمهور وجد في ظهورها على الشاشة شرًا، وإن كان باطنه خير لم يُر”.
ولم تسلم مقدمة البرنامج من غضب الجمهور، رغم اعتذارها، كونها قدمت مبررات غير منطقية لتفسير ظهور فتاة متهمة بالإباحية، ولم يُطرح عليها سؤال مرتبط بالندم، بل جاء الحوار في سياق انتزاع مزيد من التفاصيل الخاصة بحياتها وعلاقاتها، بحثا عن عناصر الجذب الجماهيري على الشبكات الاجتماعية.
الواقعة الأخيرة أظهرت حجم تذمر غالبية المصريين من كل ما يرتبط بالإعلام المحلي
ما عمّق الجدل حول الواقعة أن هذه ليست المرة الأولى التي يكتشف فيها الجمهور المصري أن المذيع المتجاوز، يمارس المهنة دون ترخيص مزاولة المهنة، وفي كل واقعة تتحرك نقابة الإعلاميين متأخرة لتبييض ماء وجهها وتحاول إقناع المشاهدين بأنها موجودة وحاضرة ولديها صلاحيات في الرقابة والمحاسبة.
وتظل مشكلة نقابة الإعلاميين في مصر أنها تتحرك بعد ضغط الشارع، ولا تبادر من نفسها لمراجعة سجلات التصاريح الممنوحة للمذيعين الذين يظهرون على الشاشات كبداية لإيجاد حل ينهي الفوضى التي وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة.
ورأى رئيس جمعية حماية المشاهدين في مصر وأستاذ الإذاعة والتلفزيون حسن علي أن أزمة الإعلام المصري ليست في الضوابط ومواثيق الشرف، بل في عدم تنفيذها، وعدم وجود آلية واضحة لتحسين الأداء بشكل عام، مع تضارب الاختصاصات بين الهيئات المختلفة حول الجهة المنوط بها الرقابة والمحاسبة.
وأوضح لـ”العرب” أن الكثير من مقدمي البرامج ليسوا أعضاء بنقابة الإعلاميين، وهذه أزمة حقيقية، وضبط المنظومة لا يتحقق بوقف مذيعين عن العمل فقط، لكن يفترض أن تكون البداية بالاستعانة بوجوه أكثر كفاءة لإدارة المنظومة والعمل بخطة واحدة تحدد شكل وهوية إعلام الدولة.
البعض من مقدمي البرامج يعتقدون أن التركيز على الإثارة والفضائح توجه لا يغضب الحكومة كنوع من إلهاء الناس وعدم التركيز على المشاكل الاقتصادية والسياسية
ولفت إلى أن الدولة المصرية في حاجة ملحة لإعلام قوي ومؤثر، في ظل التحديات الراهنة، وما يحدث من بعض المنابر أمر خطير، لأنه يوسع الفجوة بين الشارع والوسيط المفترض أن ينقل نبض الناس لصانع القرار، ويُقرب الناس من الحقائق، وبالتالي فكل الأطراف خاسرة، الدولة والإعلام والجمهور.
ولا تكفي العقوبات على المذيعين المخالفين وحدها، لصناعة إعلام محترف، ويكمن الحل في تدريب مقدمي البرامج واختبارهم بجدية وإزاحة من لا تطبق عليهم الشروط والمعايير، بعيدا عن الاستسلام لأصحاب النفوذ، لأن المخالفات عرض مستمر.
صحيح أن العقوبات مطلوبة كوسيلة للترهيب وإظهار الصرامة ضد المخالفين، لكن العبرة أن تكون العقوبة مصحوبة بفترة تأهيل على ما يمكن قوله وما لا يجب فعله أو التطرق إليه مرة ثانية، لأن هناك مذيعين تعرضوا لوقف برامجهم وعادوا وكرروا نفس الأخطاء مجددا، وصار الجميع يدور في حلقة مفرغة.
ويتمسك خبراء في مجال الإعلام بأنه لم يعد هناك بديل عن مواجهة الخلل الأصلي في المنظومة الإعلامية سوى الإقرار بوجود مذيعين لا يصلحون للمهنة ولا يجوز منحهم تراخيص بمزولة العمل، طالما لا يجيدون الحد الأدنى من المعرفة بمواثيق الشرف الإعلامي، ويدمنون الاعتماد على الإثارة لجذب الجمهور.
وأصبح التركيز على الموضوعات الخارجة عن المألوف والعرف المجتمعي في صدارة المواد التي تركز عليها بعض الصحف والمواقع والبرامج بحثا عن استقطاب أكبر عدد من الجمهور عبر خلطة تحمل مضامين جنسية وفضائح وجرائم تتعلق بالمشاهير، حتى صارت المنافسة الإعلامية منحصرة تقريبا في تلك الموضوعات.
ويعتقد البعض من مقدمي البرامج أن التركيز على الإثارة وربما الفضائح، توجه لا يغضب الحكومة كنوع من إلهاء الناس وعدم التركيز على المشاكل الاقتصادية والسياسية، مع أن الرئيس عبدالفتاح السيسي سبق ووجه لوما قاسيا للإعلام بسبب ما تقوم به بعض المنابر من تشويه لصورة المجتمع وتغييب وعيه بموضوعات شاذة.
ويصعب فصل غرق بعض البرامج التلفزيونية في الفوضى عن انتقاء موضوعاتها محل النقاش، وفق ما هو متداول على مواقع التواصل دون اكتراث بأن الإعلام التقليدي دوره تنويري، ومن الخطر انزلاقه إلى عدم المهنية لمجرد جذب الجمهور أو تحقيق مشاهدات مرتفعة وصناعة “ترند”.
وبقطع النظر عن أسباب الفوضى، لكن الواقعة الأخيرة أظهرت حجم تذمر غالبية المصريين من كل ما يرتبط بالإعلام المحلي، وأن النسبة الأكبر من الجمهور لا تميل إلى المحتوى المبتذل والمثير، بقدر ما تنشد البحث عن إعلام مهني توعوي متوازن، لكن تظل الأزمة في اقتناع شريحة من البرامج بأنها تعمل وفق ما يطلبه المشاهدون.