البحرين تودع العام الثقافي بمعرض فني تركيبي يستلهم "المحرّق" القديمة

المحرّق (البحرين) - خلال هذا العام، وكذلك في الأعوام الماضية لم تدخر البحرين فرصة إلا وقدمت نفسها من خلالها بشكل يليق بتاريخها الثقافي والفني. وقد حفل النزوع المبتكر لدى الفنانين والمشرفين على الفنون البصرية والمعمارية في البحرين هذا العام بالعديد من الإنجازات الفنية التي كشفت عن ظواهر جمالية وتعبيرية تسندها رؤى حديثة وأفكار خلاقة.
فبعد محاولات الشيخة مي آل خليفة في تحويل بيوتات المنامة والمحرّق القديمة إلى مراكز ثقافية وفكرية مثل “بيت الشعر”، و”بيت إبراهيم العريض”، و”مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة”، وغيرها من المراكز الثقافية، بعد هذه التجارب استلهم الفنانون من التراث الفلكلوري العميق حالات متنوّعة في محاولاتهم للخروج الجاد من سطوة الإطار ومن المحترفات والمراسم، فبدأوا يؤسسون لعدة مشاريع كان بعضها حراً، وبعضها الآخر مرتبطاً بمناسبات عالمية كيوم الشعر العالمي في مارس حين تحوّلت الفنون إلى الشارع في منطقة العدلية بجاليري الرواق، معلنة تحديها للمكان الكلاسيكي.
يومها وقف الشعراء والمثقفون البحرينيون شعراء وكتابا وخطاطين ومحترفين صفاً واحداً، من أجل أن يجعلوا الأمكنة والشوارع والبيوت والأرصفة محترفات لهم دون الركون إلى الفسحة الضيقة التي يهبها إياهم ورق الكانفاس أو الكتاب.
ورغم تعدد التجارب التشكيلية وتنوعها بين “غاليري البارح”، و”الرواق”، و”جمعية التشكيليين البحرينيين”، فإن التجارب غير النمطية تبقى هي التجارب التي تكتب تاريخ خلودها في ذاكرة المتلقين خلال هذا العام.
بعد النجاح الذي حققه مشروع “نزل 88” العام الماضي بمدينة المحرّق البحرينية الذي اشترك فيه مجموعة فنانين استلهموا من ذاكرة المكان أعمالهم ها هم يأتون من جديد في أواخر هذا العام ليؤسسوا لمشروع آخر يحمل ذات الفكرة ويؤسس لنفس الاتجاه التعبيري في الخروج من اللوحة بمعناها التقليدي لفضاء أكثر اتّساعاً. وهذا ما عبّر عنه الشاعر قاسم حداد عندما التقته صحيفة “العرب” في معرض عمارة 1644 بالمحرّق، فقال “الفنان بمجرد أن يخرج من الإطار يجد نفسه في فضاء لا نهائي من الإبداع”.
عمارة 1644
وأنت تدخل سوق المحرّق القديم تواجهك في إحدى أزقته المتفرّعة والمكتنزة بروائح البهارات والحلوى والمتاي عمارة يوسف بن عبدالرحمن فخرو (1873-1952) الواقعة على شارع 1644 بجدرانها الحجرية الطينية المتهالكة. تعدّ العمارة واحدة من أهم المراكز التجارية في البحرين القديمة، حيث كانت تحتوي على مجموعة من المخازن للتمويل بأشكاله، كل على حدة، من أرز وتمور وسكر ومواد غذائية.
|
عشرون فنانا
انطلاقاً من هذا الإرث التاريخي استلهم الفنانون: لبنى علي الأمين، علي حسين ميرزا، أحمد إمام، زهير السعيد، جيهان صالح، فائقة الحسن، نبيلة الخير، أصغر إسماعيل، عبد الوهاب تقي، جياد حسن جواد، عباس رمضان، محسن المبارك، جعفر العريبي، نادر العباسي، أحمد عنان، حامد البوسطة، محسن غريب، محمد طه، عيسى الحمادي، إقبال الحسن، تجاربهم التي أتت مفاهيميةً تجسد تاريخ المكان والزمان تحت أرض العمارة التي لم يبق منها سوى الأنقاض قبل إحيائها من قِبَلِهِمْ. فجاءت أعمالهم وكأنها تقدّم للمتلقين صدمات حضارية ارتدادية بين الحاضر بكل حمولته الحداثية وبين التاريخ بكل ثقله التراثي والنصي. كانوا يبنون المكان وفق رؤيتهم الكونية الجديدة.
ذاكرة المكان
وعن المشروع يحدّثنا الفنانون المؤسسون في إحدى منشوراتهم: “لقد أيقظت المكانَ بحيويته وعراقته مخيلةُ الفنانين، مما حثّهم على تحويل ذاكرة الزمان والمكان إلى أعمال فنية تعكس نظرتهم الإبداعية في سبيل قراءة تعبيرية للتاريخ، كلٌّ بطريقته الخاصة، وأسلوبه المتميز في العمل، لبث روح جديدة لتجربة الإنسان في الماضي، وخلق علاقة بين الماضي والحاضر”.
في حديثه مع صحيفة “العرب” حول تجربته أشار الفنان محسن المبارك الذي قدّم ثلاثة أعمال في مشروع العمارة (أطراف بديلة-تطعيم النبات-خصوبة) إلى أن “مجموعة الأعمال تشدّد على ضرورة التفكير في وضع استراتيجية بناء مستدامة تحمي الطبيعة والبيئة وبالتالي الإنسان، وكذلك تقترح وسائل بديلة متخيلة لتحقيق الهدف”. وأضاف: “العمل في الفضاء المفتوح حلم بالنسبة إليّ، فأغلب الفنانين مثلي يعملون في محترفاتهم الضيقة. وأنا أرى نفسي أكثر في الأعمال الكبيرة والجداريات ومنحوتات الشوارع والميادين فهي دائما تبهرني وتجذب انتباهي، ولكنّي وإلى غاية الآن لم أمارس تلك الحرية في تلك البقعة المغلقة بفضائها المفتوح”.
ومشروع العمارة يستأنف المبارك قائلاً: “أما ‘العمارة 1644” فهي قفزة كبيرة ليست على مستوى البحرين فقط، بل أراها أكبر من ذلك بكثير، ربما تجربة رائدة إقليمياً. فقد عملنا على مكان هو في الأساس مدرج في قائمة الآثار، سيتم تطويره وترميمه لاحقاً، وباستخدام إيحاءات المكان والذاكرة وما يوجد فيه من مهملات كثيرة قمنا بإنتاج أعمال تركيبية ومفاهيمية تنافس تلك التي نراها في التجمعات والمسابقات الفنية الكبيرة. فنحن في هذه التجربة امتزجتا برائحة المكان وتشرّبنا الذاكرة الحاضرة فيه بقوة فجاءت أعمالنا لا تختلف كثيراً عن أعمدته وجدرانه”.
|
هذا الأمر لفت إليه أيضاً الفنان السعودي جاسم الضامن الذي حضر الافتتاح حين علّق على مشروع العمارة قائلاً: “العمارة 1644 لم تكن مجرد مكان متهالك، بل استطاع الفنانون إحياء المكان والزمان بعمق الأفكار، وبساطة الأعمال. لقد وجدوا المكان الحقيقي لحفر أعماقه وتحليل آثاره”.
في مدخل المعرض المكشوف تواجهك ثلاجة قديمة الطراز تلتفّ عليها الأحذية العتيقة في إشارة لطواف الفقراء والجوعى حول لقمة عيشهم. يتحدّث الفنان علي حسين ميرزا عن التجربة قائلاً: “الخروج عن إطار اللوحة هو ما ميز الورشة هذا العام والخروج عن الصلات الفنية هو الميزة الأكبر، الفن الآن أصبح أكبر من كونه لوحة جميلة بإطار مذهّب أو بألوان زاهية، الفن أصبح فكرة وموضوعا إذ لا قيمة للعمل الفني الآن إن لم يكن يعالج موضوعا أو قضية ما.
الجدير بالذكر أن المعرض -الذي افتتح أبوابه للزوار في 12 ديسمبر ويستمر حتى 19 منه ويتضمن أكثر من 25 عملاً تركيبيا مفاهيميا- اعتمد الفنانون فيه بصورة أساسية على إعادة تدوير الخامات والمواد التي وجدت بالمكان، خامات من البلاستك والحاويات والزجاج والعلب المعدنية القديمة التي أكسبها الزمن وتغيّرات المناخ والفضاء المفتوح حالة من العتاقة والقدم.