الباجي قائد السبسي.. وقع الغياب

كان الرئيس الباجي قائد السبسي رجل التوافقات الكثيرة والمثيرة وهي توافقات بقدر ما أنتجت رفضا كبيرا لبعض آثارها، إلا أنها جنّبت البلاد احتمالات الانزلاق إلى مآلات غير مأمونة العواقب.
الجمعة 2019/07/26
وفاة الرئيس التونسي حدث في سياق سياسي تونسي موسوم بالتأزم

وفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، عن سن 92 سنة، الخميس، 25 يوليو 2019، سيكون لها وقع متعدد المآلات على المشهد السياسي التونسي. ففضلا عن الحضور الشخصي الكبير للرئيس التونسي وما كان يمثله من دور في البلاد رغم صلاحياته المحدودة، فإن الوفاة ستعري دون شك معالم قصور المشهد السياسي في تونس، وما يكتنفه من هرولة بعض الأطراف للهيمنة على البلاد.

وفاة الرئيس التونسي حدث في سياق سياسي تونسي موسوم بالتأزم. والتأزم التونسي ليس وليد اللحظة السياسية الراهنة، بل تعاونت على صنعه وتعميقه كل الأطراف السياسية، ولو بتفاوت.

وفي تصدّر الخبر أولويات الأحداث، لدى التونسيين أولا، وفي الأنباء العالمية ثانيا، شيء مشتق من شخصية الرئيس التونسي وحضوره، وأشياء أخرى عائدة إلى أثر غيابه، بالمعنيين السياسي والدستوري هذه المرة.

انشغل الباجي قائد السبسي منذ عودته، بعد الثورة التونسية، على تدبير السياسة بالمنهج البورقيبي، حيث لعب كثيرا على حضوره الشخصي وعلاقاته مع أغلب الفاعلين السياسيين، وراهن على أن التوافق يمثّل ترياقا سحريا لفك المعضلات، بما قد يتجاوز أحكام الانتخابات أحيانا.

أبدى قائد السبسي في أحيان كثيرة ميوله نحو تجاوز ما أفرزته نتائج الانتخابات، وتفضيله الحوار والتوافقات، فكانت وثيقة قرطاج بنسخها ولقاء باريس الشهير مع راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية (بصرف النظر عن المواقف المتباينة من تلك المحطات) أدلة على تلك المدرسة السياسية وما أنتجته من مخارج وحلول أو ما أضافته من مآزق ومطبات.

بهذا المعنى سيكون أثر غياب الباجي قائد السبسي بنفس قدر أثر حضوره، وسيحمل رحيله نفس الجلبة التي أفرزتها عودته إلى الساحة السياسية التونسية بعد الثورة (رئيسا للحكومة المؤقتة) مدجّجا بأفكار، بورقيبة وبوصمة أنه يمثّل النظام القديم عند من نصبوا أنفسهم وقتذاك حراسا للثورة.

الأثر الكبير لغياب الباجي كشف معضلة لطالما نبّه إليها الكثير من السياسيين. المحكمة الدستورية التي تأخر إنجازها، وكان تأخر تشكيلها ناتجا عن أهمية هذه المؤسسة أولا، ثم وقوعها في مفترق رياح التجاذبات الحزبية.

كان وجود المحكمة الدستورية يمكن أن يسد المعضلات الدستورية والسيناريوهات الخطيرة التي يمكن أن تؤول إليها أوضاع البلد، من قبيل عدم قدرة رئيس مجلس نواب الشعب على مباشرة نشاطه، خاصة وأنه عانى مؤخرا من مشاكل صحية كثيرة، أو غيرها من الاحتمالات التي يمكن أن تستجدّ.

جدير بالتذكير أن الفصل 84 من الدستور ينص على أنه “عند الشغور الوقتي لمنصب رئيس الجمهورية، لأسباب تحول دون تفويضه سلطاته، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقر الشغور الوقتي، فيحل رئيس الحكومة محل رئيس الجمهورية. ولا يمكن أن تتجاوز مدة الشغور الوقتي ستين يوما. إذا تجاوز الشغور الوقتي مدة الستين يوما، أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أو في حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقر الشغور النهائي، وتبلّغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يوما”.

وفي كل الاحتمالات القانونية الأخرى، بين الشغور الوقتي أو الشغور الدائم، تتبدى أهمية المحكمة الدستورية، التي لم تشكّل بعد، وكان تأخر تشكيلها ناتجا عن تغليب المصالح الحزبية.

ويشار أيضا إلى أن غياب هذه المؤسسة الدستورية العليا أدى سابقا إلى اندلاع أزمات سياسية حارقة، متصلة بتأويل أحكام وفصول الدستور، حيث كانت تلك المحكمة هي المخوّل الوحيد لحسم تلك الاختلافات التي ظهرت في مناسبات متعددة على شاكلة تحديد وتوضيح صلاحيات الرئيس وتقاطعها مع صلاحيات رئيس الحكومة، باعتبار أن دستور 2014 لم يحدد الصلاحيات بدقة، وتلك بعض المساحات ضبابية، أو تلك الإشكاليات التي اتصلت بمدنية الدولة ودور الدين في المجال العام.

كان الرئيس الباجي قائد السبسي رجل التوافقات الكثيرة والمثيرة وهي توافقات بقدر ما أنتجت رفضا كبيرا لبعض آثارها، إلا أنها جنّبت البلاد احتمالات الانزلاق إلى مآلات غير مأمونة العواقب، ومكنت من فرملة نزوع حركة النهضة نحو الإطباق على البلاد بكل مؤسساتها. واليوم إذ يغيب الباجي، وإذ تستعد تونس إلى انتخابات لا أحد يعرف مدى إمكانية تنظيمها من عدمها، وفي ظل الضعف الذي تعرفه أغلب الأحزاب التونسية، تسير النهضة منفردة نحو الهيمنة، ولا أحد بإمكانه إيقافها، بالانتخابات أو بالتوافق.

8