الامتحانات الرقمية تواجه مقاومة أسرية واجتماعية في مصر

قائمة التوجيهات الأبوية حول الاختبارات تفقد جدواها في ظل منظومة مرقمنة.
الجمعة 2019/11/15
ضبابية الامتحانات الرقمية تضاعف قلق الأسرة

تتمسك الحكومة المصرية بتمرير النظام الرقمي في التعليم كاملاً، بما في ذلك رقمنة الامتحانات، متجاهلة تخوفات الأسرة ومقاومتها. وفي محاولة لتقليص الفجوة ناقش المركز الثقافي الألماني في القاهرة “معهد جوته” فرص وتحديات الامتحانات الرقمية في مؤتمر على مدار يومين.

القاهرة - كانت الطالبة في الصف الأول الثانوي، منة إبراهيم، في مدرستها في محافظة الجيزة المجاورة للقاهرة، تتلقى تعليما تقليديا بحتا رغم أنها ضمن الدفعة الثانية لتطبيق منظومة التعليم الرقمي، لعدم استلام جهاز “التابلت” المخصص لثورة رقمية في التعليم وفق الرؤية الرسمية في مصر.

وقالت أم منة وهي ربة منزل لا تجيد التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، لـ”العرب”، “كدت ألا ألحق ابنتي بالتعليم العام (يؤهل للالتحاق بالجامعات) تجنباً لامتحانات التابلت، كيف نضع مصير الأبناء في يد جهاز أصم قد تُفصل أو تقطع عنه الإنترنت، فيضيع الطالب”.

وأضافت “لم أعد ألح على منة في الدعوة إلى المذاكرة بعدما سمعناهم يقولون إن الامتحان لا يقيس الحفظ، بت مشفقة على ابنتي وأتمنى أن يتراجعوا عن القرار، في الماضي كنا نعاني من إمساك الأبناء الهواتف المحمولة وعدم المذاكرة، هل يفترض الآن أن أطمئن وهم مدققون فيها؟ وكيف سأعرف إن كانوا يذاكرون أو يلهون بها؟”.

ولم يعد بإمكان الآباء والأمهات ترديد عبارة “يوم الامتحان يُكرم المرء أو يهان”، المفضلة لشحذ همم الأبناء في المذاكرة، ترقباً لاختبارات مصيرية أقرب إلى كيل تعكس نتائجه ما بذله الابن من جهد ذهني طيلة العام، فالاختبارات التي كانت تستدعي حالة الطوارئ في المنزل سابقاً باتت وحشا يتفق الآباء والأبناء على القلق منه ويتمنون زواله منذ قررت الحكومة رقمنته.

ويجد قلق الأسرة المضاعف من الامتحانات الرقمية مبرراته في ضبابيته أو عدم الثقة في عدالته، فضلا عن التجربة السيئة التي أصبحت خبرة راسخة وشبحا يُتوقع تكراره كل مرة، والمتمثلة في فقر البنية التحتية التكنولوجية في مصر، والمقتضبة في عبارة “السيستم واقع”، أي البرنامج لا يعمل.

الامتحانات الرقمية منظومة دقيقة تتجاوز خبراء المناهج إلى الخبراء النفسيين، لتوقع رد فعل الطالب وقدراته

وفتح “معهد غوته” الألماني في القاهرة نقاشاً للمتخصصين خلال مؤتمر يحمل عنوان “الامتحانات الرقمية– الفرص والتحديات: اختبارات موجهة لتنمية القدرات” استمر على مدار يومي 29 و30 أكتوبر الماضي.

وكشف المؤتمر أن الامتحانات الرقمية أعمق من قرار حكومي تواجهه تخوفات ومقاومة أسرية، فهي منظومة دقيقة تتطلب دراسة معمقة ودقة عند وضع السؤال، تتجاوز خبراء المناهج إلى الخبراء النفسيين، لتوقع رد فعل الطالب وقدراته وما يمكن أن يستشعره نحو السؤال، وما نرغب في قياسه تحديداً. وتكمن الإثارة في ما ساقته الخبيرة في الاختبارات الرقمية الألمانية كارين كليبين خلال المؤتمر، من أن منظومة الاختبارات في ألمانيا ورقية بالكامل، سواء في المدارس أو في الجامعات، باستثناء اختبار واحد للغة يخضع له غير الناطقين بالألمانية ويؤهلهم للالتحاق بالجامعات.

وقالت كليبين لـ”العرب” إنها مرتاحة للطرح الذي تقدمه وزارة التربية والتعليم حول الرقمنة، وتلمس رغبة حقيقية لدى المسؤولين في تقديم تعليم تفاعلي ينمي قدرات الطلاب، لكنها أشارت إلى عدم وقوفها على حجم التحديات في الأرض، “أتوقع فجوة بين الرؤية والواقع”.

ويضع حديث كليبين الكثير من الأسر أمام تساؤل: هل تسرعت الحكومة المصرية في إقرارها للمنظومة الرقمية في الاختبارات، إذا كانت دولة مثل ألمانيا وهي تحتل المركز الرابع في جودة التعليم عالميا لا تخضع لذلك النظام، ورغم ذلك تقدم تعليما تفاعليا متميزا؟

ولم تكن الإجابة محل حسم داخل قاعة النقاش، وإن عكست التباين بين المسؤولين والأسرة حول القضية، فكلما اقترب المتحدث من طبقة المسؤولين بدا مدافعاً عن المنظومة ومتغزلاً بمحاسنها، والعكس بطرح السلبيات من قبل المحتكين بالمنظومة في المدارس والطلاب.

وأصبحت التجربة أمام مدرستين تتفقان على ضرورة التغيير ومواكبة التكنولوجيا والعصر، الأولى تمثل المسؤولين في الوزارة المعتلين لمنصة النقاش داخل المؤتمر، رأوا أن التغيير يجب أن يحدث دفعة واحدة بشكل عام، مع العمل الدؤوب على مواجهة الأزمات وحلها دون الالتفات إلى رفض الأسرة والمجتمع الذي يقف دائماً حائط صد لأي تغيير، وعبرت عن فلسفة ذلك الفريق مستشارة وزير التعليم نعيمة عبدالعزيز حين قالت “ما لا يدرك كله لا يترك كله”.

ورأى الفريق الآخر، من موجهي المواد ممن يحتكون مباشرة بالطلاب والمدرسين، أن سلبيات عديدة تواجه منظومة الامتحانات الإلكترونية، فقد تعمل الامتحانات الرقمية على تضليل عملية تقييم الطلاب، إذ يتمكن البعض من الولوج إلى موقع البحث “غوغل” خلال الامتحان للبحث عن الإجابة، ما يرفع نتائجه عكس مستواه الضعيف، فهو لم يختبر قدرة الطالب في المادة، لكن قدرته في استخدام التكنولوجيا وتوظيفها لصالحه. وهنا يرد الفريق الأول مازحاً، ذلك جيد طالما شحذ الطالب لتنمية مهاراته البحثية.

كما رأى هذا الفريق أن التخلي عن الامتحانات الورقية بالكامل، على اعتبارها ثوبا تقليديا يجب أن نعتزله نحو الحداثة، رؤية غير دقيقة، فبعض الأسئلة أفضل طريقة للإجابة عنها ورقياً، مثل الأسئلة المقالية والتعبيرية، فالورقة يستطيع الطالب من خلالها التعبير عن ذاته على نحو أفضل، ولا تستغرق الإجابة عنها نفس الوقت الذي تستغرقه رقمياً، وفق ما قاله موجه عام اللغة الإسبانية إبراهيم دياب لـ”العرب”.

وشرحت كليبين طبيعة الأسئلة الرقمية، وما يجب أن يُراعى عند إعدادها، قائلة “هي تحدّ في كل مرة، بل مع كل سؤال، فيجب أن يحدد واضعه ماذا يريد أن يقيس؟ وكيف يستقبل الطالب سؤاله؟ كي يعرف الخبير موقعه تجاه الطالب”.

ونبهت إلى ضرورة تقديم الأسئلة في إطار مواقف حياتية يتفاعل معها الطالب، وتحفز قدرته على الإبداع والتفاعل، “كأن أخبره مثلاً في سؤال يتعلق بالترجمة أن صديقا لك يرغب في كتابة جواب بالألمانية ويريدك أن تساعده”، لافتة إلى تجنب صياغة أسئلة تتعلق بالمحرمات أو المرض أو الموت. وشددت الخبيرة الألمانية على أن عملية وضع الأسئلة عملية صعبة تتطلب قدرا عاليا من المرونة. وقالت إن الاستعانة بخبراء نفسيين مهمة جدا في وضع ذلك النوع من الأسئلة، لقدرتهم على توقع استجابة الطلاب في المراحل العمرية المختلفة، ومراعاة الفروق الفردية.

كما لفتت كليبين إلى أهمية أن يصبح الطالب على دراية كاملة بمعايير التقييم الخاصة بالامتحان الرقمي، وتوضيح الدرجة المحددة لكل سؤال، كما يمكن أن تُتاح الاستعانة بوسائل مساعدة كالقواميس أو الكتب.

وكان ذلك ما يخص الطالب، أما المعلم فتيسر له الامتحانات الإلكترونية عملية التصحيح، وبعض الأسئلة يمكن أن تُصحح عبر الكمبيوتر، كما يتيح منظومة عادلة في المراجعة، حيث يخضع السؤال الواحد لمراجعة معلمين كل منهم في منطقة مختلفة، وحال اختلاف الدرجات تعرض الإجابات على معلم ثالث.

وطرحت إشكالية الجهل الإلكتروني في “معهد غوته”، لكن على صعيد لا يتعلق بقدرة الآباء على التعاطي مع المنظومة التعليمية الجديدة، بل بقدرة الطلاب على ذلك التعاطي في مناطق فقيرة.

وتعاني مصر من نسب فقر تتجاوز الـ34 بالمئة، ما يفرض تحديات مضاعفة على التحول الرقمي في التعليم، فحتى إذا كانت الدولة تتولى مسؤولية منح الطلاب التابلت مجاناً، فهي لا تتبنى في المقابل توصيل الإنترنت إلى المنازل الفقيرة في القرى والنجوع، وأثار هذا المحور جدلاً داخل القاعة، فبينما ساق المسؤولون عبارات تأكيد العمل على تحقيق العدالة في التوزيع التكنولوجي على كافة الأسر في القرى الفقيرة، ساق آخرون صعوبات في العاصمة نفسها.

واقترح موجه لغة أجنبية وضع نظام مراقبة داخل كافة المدارس وربطها بنظام داخل الوزارة لتأكد من تطبيق المنظومة، وأشار إلى أن طلاب الصف الثاني الثانوي يأتون إلى الفصل دون التابلت، “وحينما نسألهم عنه يقولون إن آباءهم تحفظوا عليه حتى الامتحانات، كي لا يُكسر”.

21