"الاختيار" يفضح التطرّف من خلال سيرتيْ شهيد وخائن

مرّت ثلاثة أيام على انطلاق شهر رمضان ومعه انطلاق الموسم الدرامي السنوي، وقد بدأت تتوضح الصور أمام المشاهدين والمتابعين للأعمال الدرامية هذا العام، ليختاروا الأعمال التي سيتابعونها، وقد حققت بعض الأعمال نجاحا لافتا واستقطبت جمهورا واسعا ومن بينها المسلسل المصري “الاختيار”.
خطف المسلسل المصري “الاختيار” أنظار جمهور الدراما الرمضانية بعد عرض أول حلقتين في رمضان، مع تقديمه محاكمة مبطنة لأفكار المتطرفين وعلاقتهم بجماعة الإخوان، انطلاقا من قصة استشهاد ضابط صاعقة بسيناء قبل ثلاثة أعوام.
نوّه العمل إلى أن أحداثه حقيقية مع تغيير بعض الأسماء والأماكن، ما يجعله سردا لجزء من تاريخ شهده الناس بأعينهم ولمسوه بقلوبهم وسمعوا من عايشوا أحداثه أو كانوا حاضرين لها، ومُنح مضمونه قدرا من الاحترام تحظى به الأعمال ذات الصبغة الوطنية.
بين الخير والشر
يبدو من الوهلة الأولى كما لو كان العمل مخصصا لتخليد سيرة الضابط أحمد المنسي، ويقوم بدوره الفنان أمير كرارة، قائد كتيبة صاعقة في سيناء، استشهد مع عناصر فرقته أثناء صدّ هجوم إرهابي، ويحكي أيضا قصة قاتله وزميله السابق في الجيش هشام عشماوي الذي كان العقل المدبر لعمليات إرهابية في مصر قبل وبعد هروبه إلى ليبيا، ويقوم بدوره الفنان الشاب أحمد العوضي.
أشرفت الشؤون المعنوية بالجيش المصري على العمل، ووفرت له الإمكانيات اللازمة، ما يؤكد أن إعداده يحمل رسائل سياسية معينة لمن يهمهم الأمر، بما يتجاوز حدود الإخوان.
المسلسل يتعدى فكرة تناول سيرة بطل إلى توجيه فلاشات سريعة وغير مباشرة عن علاقة الإخوان بمتطرفي سيناء
وقد اعتمد المخرج بيتر ميمي كثيرا على أسلوب الجمع باستمرار بين اللقطات الحية والدرامية، وهو ما ظهر في أولى لقطات العمل، بداية من وصول عشماوي مقيدا في طائرة عسكرية طرز “سي.130” إلى القاهرة قادما من ليبيا بصحبة عناصر من المخابرات المصرية.
وسلط “الاختيار” الضوء على دور الإعلام في غرس أفكار داخل المتطرفين، فأسرة المنسي تتابع لحظة وصول قاتل ابنها عبر وسائل الإعلام، في المقابل تشاهد أسرة عشماوي قناة الجزيرة القطرية التي تبث تقريرا في الوقت ذاته بعنوان “إذا كنت تخشى على حياتك.. فغادر سيناء”، وتهدد شقيقته المنتقبة التي تندب أخاها بإحراق مصر كلها انتقاما له في عبارة شبيهة لنمط من التهديد طالما ردده الإسلاميون بعد إزاحة محمد مرسي عن الحكم.
يحاول المسلسل التأطير للصراع بين الخير متمثلا في المنسي والشر المتجسد في عشماوي، بين ضابط يرى أن رسالته في الحياة حب الوطن وحمايته ويتعامل مع جنود فرقته بأسلوب يجمع بين الحسم واللين والتماس الأعذار، وبين زميله السابق عشماوي، الذي يحمل أسلوبا فظا ويعنف جنديا لمجرد ترديده أغاني ريفية مع زملائه بدلا من قراءة القرآن.
تاريخ قريب
قال الناقد الفني طارق الشناوي، إن المسلسل يمس وجدان الكثير من المصريين، ويرصد تاريخا قريبا لا يزال ممسوكا باليد، والقيمة الجديدة التي يتضمنها أنه يقدم وجهتيْ النظر سواء في البطل المنسي أوالخائن عشماوي، في حوارهما معا أثناء خدمتهما المشتركة، وأخذ المشاهدين في رحلة تعمق داخل الشخصيتين دون إصدار حكم الإدانة من البداية.
كشف المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بمصر، أن حلقته الأولى التي بثت الجمعة، حققت أعلى نسب مشاهدة، ما يغري بتكرار ذلك النمط من الأعمال التي خلت منها الساحة الدرامية تقريبا، وتتبنى بطولات وتضحيات للذين استشهدوا في سبيل الدفاع عن الوطن.
أضاف الشناوي لـ”العرب”، أن صناع المسلسل تعاملوا معه بذكاء في الغوص اجتماعيا وفكريا وثقافيا في دوافع المنسي وعشماوي، فكلاهما تخرج في المؤسسة العسكرية، ليؤكد أنه من الوارد أن يدخلها ضباط يتمتعون بالثقافة والحس الوطني ويعرفون دورهم جيدا وآخرون لا يتمتعون بالصفات ذاتها وقد ينحرفون فكريا.
يبدو اسم المسلسل موفقا في انتقاء كملة “الاختيار” التي تحمل دلالات تتماشى مع أهدافه، فكل شخص لديه الحرية في اختيار طريقه للحياة وأن يعمل عقله ويفند ما يقال له، أو يسير معصوب العينين حتى يوقع بنفسه في طريق التطرف والتهلكة.
عمل درامي يخلد سيرة شخص يستحق أن يكون قدوة ويقارن بين بطل يدافع عن وطنه وخائن يبيعه
يتعدى العمل فكرة تناول سيرة بطل إلى توجيه فلاشات سريعة وغير مباشرة عن علاقة الإخوان بمتطرفي سيناء والتعاطف مع الجماعات الإرهابية المسلحة والاستثمار في مشروع التمكين، ودور وسائل الإعلام التحريضية في دعمهم، والتي تتماشي مع رسالة سياسية توجهها الحكومة الحالية للمواطنين دائما بعدم نسيان الماضي وجرائم المتطرفين.
يكشف المسلسل الغائية الكبيرة التي تتعامل بها العناصر الإسلامية بربط قضاء مصالح الناس بمشاركتهم في تظاهرات تأييد قرارات لا يعرفونها، واتباعهم جميع الوسائل الملتوية أيا كانت حتى يصلوا بها إلى أهدافهم، وكيفية تواصلهم مع المقاتلين في الدول المجاورة كسوريا وليبيا.
ويفضح تأثير المنطلقات الفكرية للأسر على أبنائها عبر سلسلة من مشاهد إفطار رمضان والأحاديث الدائرة بين كل منهم ومنطلقاته، فأسرة عشماوي تعتبر انقطاع الكهرباء في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي مؤامرة على الحكم، وتظهر والداته وشقيقته ميولا متشددة بالتعبير عن رفضهما دخوله الجيش من الأساس، وعائلة المنسي تتناول الأمر من منطلق المصلحة العامة وتأثير انقطاع التيار على صحة الأطفال والمرضى بالمستشفيات.
يحاول العمل إشراك المشاهدين معهم في الأحداث كما لو كانوا شاهدين عليها ويحولهم أحيانا إلى جزء من الحكاية، بالتركيز على حادثة استشهاد جنود الجيش في مذبحة رفح الأولى في أثناء تناولهم الإفطار، والتي وقعت في رمضان عام 2012 وراح ضحيتها 16 جنديا، ونمط حياتهم في المعسكر والوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين.
البطل والتضحية
بدأت الميليشيات الإلكترونية للإخوان الهجوم على “الاختيار”، خاصة المشاهد التي تتحدث عن تبرير قتل الجنود في سيناء بزعم أن “المجاهد” ليست له علاقة بما يوجد في نفوسهم، لأنهم في صف من حاد عن الله ورسوله، فمن كان فيهم كافرا في جهنم وبئس المصير ولو فيهم شخص مؤمن يبعث على نيته والله يحاسبه عليها.
يرفع العمل شعارا بأن الجماعات الإسلامية تتحايل بكلمة الجهاد على أعضائها وتكذب من أجل تحقيق أهدافها واستقطابهم، فالجهاد يحمل معاني كثيرة بعيدة عن القتال، وأهمها سماحة الدين التي تمثل جوهر جميع الأمور، والدعوة والحُجة والبيان، فمن يجاهد في سبيل الله هم الجنود.
أوضح الفنان أمير كرارة الذي برع من قبل في تقديم دور ضابط الشرط في مسلسل “كلبش”، في تصريحات صحافية، أن “الاختيار” شوكة في ظهر التكفيريين ورعاة الإرهاب، وعمل درامي يخلد سيرة شخص يستحق أن يكون قدوة للأجيال الجديدة، ومقارنة بين بطل يدافع عن وطنه، وخائن يبيع بلده.
أظهرت طريقة التصوير حجم الإنفاق الكبير على الشكل والخدع السينمائية، وهو أسلوب يفضله المخرج بيتر ميمي الذي سبق له تقديم فيلم حربي أيضا مع “كرارة” بعنوان “حرب كرموز”.
أجرى صناع العمل معالجة أكثر درامية على واقعة استشهاد المنسي الأصلية، فجعلوا لحظة استشهاده مختلفة بعض الشيء عن الأصل، فبدلا من إطلاقه النار على الإرهابيين من أعلى البناء، جعل الاشتباك أمام مقر وحدته، وغير وقت الهجوم من الليل إلى النهار، لمنح أنفسهم قدرة أكبر على إظهار قدرات الممثلين.
تتماشى تلك التغييرات مع تركيز العمل على فكرة التضحية من أجل الوطن التي تحظى بقدر من العمق بنفوس الشخصية المصرية، وهي الفكرة التي تم تقديمها في فيلم “الممر” الذي تناول فترة حرب الاستنزاف مع إسرائيل، ويتقاطع العملان معا في كثير من جمل الحوار التي تركز دائما على أن الجنود مشاريع شهداء من أجل قضية وطنهم.
حشد العمل مجموعة كبيرة من ضيوف الشرف، بينهم آسر ياسين، محمد إمام، كريم محمود عبدالعزيز، ماجد المصري، محمد رجب، صلاح عبدالله، إياد نصار، أحمد وفيق، كريم عبدالخالق، ولا يتعدى دور بعضهم بضع دقائق فقط.