الاتحاد العام التونسي للشغل: اختبار الحقيقة لإستراتيجية خذ كل شيء ولا تقدم أي شيء

الاتحاد العام التونسي للشغل اختار في الفترة الأخيرة التصعيد الكلامي في مواجهة السلطة معلنا رفض الإصلاحات التي تنوي القيام بها، في وقت يبحث فيه التونسيون عن قشة نجاه يتعلقون بها لمنع تحول بلادهم إلى دولة فاشلة، وسط دعوات إلى أن يتصرف الاتحاد بأكثر مسؤولية ويشارك في الإنقاذ بدل تعميق الأزمة.
رفع نورالدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل من سقف شعاراته في الأيام الأخيرة في وجه السلطة ليس فقط في المسائل ذات البعد الاجتماعي التي يفترض أن منظمة نقابية بتقاليدها وتاريخها ملتزمة بالتحرك فيها. ولكن هذا الخطاب ظهر رأسا إلى مواجهة السلطة في ملاعب مختلفة بينها رفض المنظمة أيّ إصلاحات اقتصادية أو اتفاق مع صندوق النقد، وكذلك دعوة الرئيس قيس سعيد إلى تأجيل الانتخابات وتعديل القانون الانتخابي، أي العودة إلى الخلف أسابيع قليلة قبل الانتخابات التشريعية، وحديث آخر عن إسناد رابطة حقوق الإنسان بشعار “كلنا رابطة حقوق الإنسان”.
الرسالة الواضحة من تكثيف نورالدين الطبوبي تصريحاته في الفترة الأخيرة هي العودة إلى الدور السياسي الذي فقدته المنظمة خلال أكثر من عام مخافة الصدام مع قيس سعيد. وهذه العودة تظهر أن الطبوبي يعتقد أن الرئيس التونسي ليس في أفضل حال، وأن الفرصة مواتية ليعاود الاتحاد لعبته المفضلة منذ ثورة 2011، وهي الظهور بمظهر الأستاذ الذي يقدم النصائح ويلوّح بالعصا تجاه السياسيين الذين يتلكأون في القبول به خصما وحكما وقاضيا مثلما حصل ما بعد الحوار الوطني في العام 2013.
لكن الوضع اختلف الآن، ففي سنوات ماضية كان يمكن أن توجد مبرّرات لثورية الاتحاد في مواجهة السلطة السياسية في ظل أوضاع اقتصادية كانت تتجه إلى التدهور لكنها لم تصل إلى الوضع الحالي. وإذا كان الاتحاد قد نجح في إجبار الحكومات السابقة الضعيفة على تقديم تنازلات كثيرة خاصة في ما يتعلق بالزيادات في الرواتب، فإن الوضع الحالي الذي تعيشه تونس لا يسمح بأيّ تنازلات أو مناورات خاصة أن الحكومة الحالية ليس عندها ما تتنازل عنه أو تتفاوض بشأنه.
طالما أن الاتحاد يحب التدخل في قرارات سيادية، فلم لا يسأل لماذا يخسر معمل التبغ حتى تضطر الحكومة لتخصيصه؟
كل الذي حصلت عليه تونس من قروض ومساعدات تم تبديده في السابق، والحكومة الحالية تقف على وضع كارثي ويفترض أن يترك لها الاتحاد قليلا من الوقت حتى تقدر على وقف الانحدار بقطع النظر عن تقييمه لأدائها وقيمة وزرائها ومدى قبولها بالتفاوض معه، وإطلاق تصريحات متناقضة بشأن المفاوضات الاجتماعية وموضوع رفع الدعم والتفويت في مؤسسات حكومية فاشلة إلى القطاع الخاص كما تقوم على ذلك خطة صندوق النقد الدولي لإصلاح الاقتصاد التونسي.
تناقض التصريحات يعود في جزء منه إلى السعي لتجنب الصدام مع اتحاد الشغل لإيمان الحكومة أن أي صدام في شكل إضرابات قطاعية أو إضرابات عامة ستعني ضياع فرصة الإصلاح والسماح بوقوع البيت على رأس الجميع بما في ذلك اتحاد الشغل وقيادته التي لا تنظر إلى الأزمة نظرة واقعية، وتفترض دائما أن ثمة مناورة حكومية، وتختزل دور الاتحاد في المواجهة والتصعيد وليس الشراكة في إخراج البلاد من أزمتها.
كل الأرقام المعلنة أو المخفية تقول إن الوضع كارثي، وإن تونس تمتلك فرصة واحدة ووحيدة، والآن وليس غدا لإصلاح الاقتصاد عبر إستراتيجية تقوم على التقشف القاسي في الأموال العمومية والشروع الفوري في الإصلاحات الهيكلية الضرورية حتى لو عارضها الشارع، وهي في حالة شبيهة بالرجل الذي خيره الطبيب بين أن يقطع ساقه لمنع انتشار المرض في كامل بدنه أو أن يرضى بالموت دون محاولة ولو كانت مؤلمة وقاسية وتصيبه بتشوهات.
يعرف الاتحاد كل التفاصيل والأرقام، ولكنه ينظر إلى المسألة من زاوية مغايرة تماما، ويرى أن إنقاذ البلاد مهمة الحكومة أما هو فمهمته هي تأمين مستوى عيش منتسبيه وأعضائه وقيادته والحفاظ على مصداقيته بينهم حتى إذا احتاجت القيادة إليهم في أيّ وقت وجدتهم في صفها يحمونها ويجددون الثقة فيها حتى لو خرقت قانون المنظمة وأعادت التمديد لنفسها بتطويع القانون. وبلغة أخرى الاتحاد يرفع شعار “أنا ومن بعدي الطوفان”، ناسيا أو متناسيا أن الطوفان حين يأتي لا يبقى ولا يذر.

وهناك حقيقة أخرى، وهي أن ثقافة الاتحاد، وبالأحرى المجموعات اليسارية النافذة فيه ما تزال تحافظ على الصورة القديمة النقية لمفهوم النقابة التي تكون رأس الحربة في الصراع الطبقي، وهي تطوع الاتحاد لأجندتها فترخي متى تريد وتصعّد متى تريد وتوظف القيادة لأجندتها حتى لو كانت القيادة لا تنتمي إلى تلك المجموعات، مثلما هو الحال مع الطبوبي الذي يفترض وهو ينتمي للعاشوريين، الخط الإصلاحي في المنظمة العريقة، أن يحيّد الاتحاد عن الأجندات والاختراقات من جانب السلطة كما من جانب المجموعات المتحكمة فيه من وراء ستار.
ومن الواضح أن الاتحاد يراهن على حالة الارتباك التي تعيشها السلطة في ظل تعدد الضغوط عليها، وخاصة في ظل مشروع الرئيس سعيد الذي لم تتضح معالمه بعد وما يزال غارقا في الوجهة التشريعية.
ويتابع الاتحاد اتجاهات الريح، الآن هو ضد قيس سعيد في خطاب شبيه بخطاب المعارضة وأكثر راديكاليا منها وجرأة واستفزازا للسلطة، لكنه في فترات سابقة، وخاصة بعد 25 يوليو 2021 كان يحرص على التذكير بأنه “طريق ثالث”، ويضمّن بياناته وتصريح قادته لأزمة التبرّؤ من النهضة وتحميلها مسؤولية خراب السنوات العشر الماضية مع أنه كان شريكا فعالا في حكومات ما بعد 2013 يصادق عليها قبل أن يتم الإعلان عنها ويحصل على ضمانات بأنها لن تخرج عن طوعه.
كل الذي حصلت عليه تونس من قروض ومساعدات تم تبديده في السابق، والحكومة الحالية تقف على وضع كارثي ويفترض أن يترك لها الاتحاد قليلا من الوقت
بالتأكيد ليس مهمّا أن يكون مع قيس سعيد أو ضده أو ضد السياسيين كلهم، ما يهمّ التونسيين هو إدارته للأزمة، فقد كان شريكا بالسلب والإيجابي في السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة التي قادت البلاد إلى الوضع الصعب الذي تعيشه تونس، فهو من رعى الحوار الوطني وحصلت “خارطة الطريق التي طرحها” على ثقة مختلف الفرقاء الذين شاركوا فيها وكانت من بينهم حركة النهضة الإسلامية التي قبلت باستقالة حكومتها و”تشكيل حكومة كفاءات تترأسها شخصية وطنية مستقلة”، كما جاء في المبادرة.
بشكل أوضح التونسيون يرون أن جميع الفرقاء بمن فيهم اتحاد الشغل مسؤولون عمّا وصلت إليه البلاد، وأن عليهم أن يتنازلوا كل من موقعه لأجل إخراج تونس من الأزمة التي أوقعوها فيها. الهروب إلى الأمام لن يفيد شيئا، وإستراتيجية خذ كل شيء ولا تقدم أي شيء لم تعد ذات جدوى، فقد صرنا مهددين بسقوط السقف الذي يؤوي الجميع.
هل صحيح أن مؤسسات القطاع العام ليست فاشلة، وأن الحكومة تتآمر لبيعها؟ الجميع في تونس يعرف أن هذه المؤسسات تنخرها البيروقراطية والفساد، وأنها تجمع الأموال من هنا وتبددها من الجهة الأخرى ثم تقدم تقارير رسمية للحكومة تقول إنها خاسرة. وإذا أخذنا شركات النقل (الحافلات والقطارات وتونيسار) كمثال علينا أن نتساءل من بدّد أموالها الكثيرة، من أغرقها بالوظائف، وتغاضى عن إصلاح الوضع إلى درجة جعلها مثارا للسخرية محليا وخارجيا، أليس هو الفساد والبيروقراطية التي يريد الاتحاد حمايتها.
وطالما أن الاتحاد يحب التدخل في قرارات حكومية بل وسيادية مثل العلاقة مع صندوق النقد، لماذا لا يتدخل ويسأل لماذا يخسر معمل التبغ وتضطر الحكومة إلى تفويته أو تخصيصه؟
هل القيمة في إصلاح المؤسسات أم في الحفاظ عليها كنوع من الحنين إلى زمن القطاع العام المهيمن على كل شيء.

صحيح أن الشعارات تطرب الآذان، وتضع المنظمة النقابية دائما في موقع القوي الذي لا يزايد عليه أحد، ولا يشك في شعار أنصارها “الاتحاد أقوى قوة في البلاد”. ومثلما قال الطبوبي بأن وزير الاقتصاد جاء للتدمير بـ”أفكار ليبرالية مٌتوحشة” و”مليون خط أحمر للمساس بالقطاع العام”. كل هذا مغر وجذاب، ولكن ماذا بعد؟
إن المنظمة المسؤولة يفترض أن تنظر من زاوية مغايرة، ومثلما شاركت في حوار لإنقاذ البلاد من الانزلاق في “ديمقراطية الفوضى” التي وضعت البلاد على أعتاب الحرب الأهلية وجعلتها وجها لوجه مع الجماعات الإرهابية، فهو يحتاج إلى روح الحوار الوطني التي تقول للجميع كفى مزايدات، وعلينا أن ننقذ البلاد ليس بالاجتماعات والمبادرات وسحب “خرائط الطريق” من الدرج كونها صالحة لكل زمان ومكان، ولكن بالتوقف عن الشعبوية وحث الناس على العمل والإنتاج وإعطاء البلاد الفرصة كي تتنفس وتبحث عن مساعدات وقروض تنفقها في ما ينفع الناس.