الإنسان الغائب في عصر الاستلاب الرقمي

فنانو الكاريكاتير من مصر وروسيا يقدمون صورة بانورامية ساخرة للواقع الدامي، جاءت مثل كوميديا سوداء بفكاهياتها الباكية، وبكائياتها المضحكة.
الأحد 2019/11/24
جوانب من معرض "كاريكاتير من مصر وروسيا" في القاهرة

أطلق فنانو معرض “كاريكاتير من مصر وروسيا” الذي افتتح مساء الخميس في القاهرة، قذائفهم البصرية اللاذعة، المحمّلة بقيم فنية مدهشة ورسائل اجتماعية ثرية، ليضيء فن السخرية والمبالغة مصابيح الروح والعقل في آن، رافعا راية التنوير والدعوة إلى التغيير.

في رحلة بحثه المضنية عن الإنسان الغائب المتكسّر، وسط صخور الأرض الجامدة ومفردات العصر الصاخب اللاهث، الغارق في الميكنة والمادية والرقمية والأدخنة والأرقام، يراهن الكاريكاتير دائما على إمكاناته الاستثنائية كفن قادر على اصطياد الجوهر، ولمس الحقيقة، وتعرية الكامن في الذات، وكشف المسكوت عنه من الأوجاع الفردية المكبوتة ونيران الأزمات المجتمعية المخبوءة تحت الرماد.

الصراع الأبدي (محمد عفت)
الصراع الأبدي (محمد عفت)

وفي معرضهم الجماعي الذي يحتضنه المركز الثقافي الروسي بالقاهرة (21- 26 نوفمبر)، بالتعاون مع الجمعية المصرية للكاريكاتير، رسم فنانو الكاريكاتير من مصر وروسيا صورة بانورامية ساخرة للواقع الدامي، جاءت مثل كوميديا سوداء بفكاهياتها الباكية، وبكائياتها المضحكة.

تحتل الفنون البصرية غير التقليدية، مثل الكاريكاتير والكوميكس والغرافيتي وغيرها، موضعا أقرب إلى الذائقة العامة في السنوات الأخيرة، إذ تمكنت من قراءة لغة الشارع، والتقاط نبض البشر العاديين، في حركتهم الدائرية حول الهموم ذاتها، ومعاناتهم ومكابداتهم اليومية.

ويتسلح الكاريكاتير بالبساطة والرشاقة، وقدرته الفائقة على الاختزال إلى درجة الاكتفاء بالرسوم أحيانا دون أي تعليق كتابي، ومن خلال المبالغة والتضخيم والمفارقة والتركيز على زوايا دون غيرها لإبرازها تتشكل فيه أبجديات المرح والتهكم، ويصير الانتقاد لوحة تعبيرية ذات قيمة جمالية بحد ذاتها، بالإضافة إلى ما فيها من رسائل اكتشاف المآسي ومواضع الخلل وجذور الأزمات ومسبباتها الفعلية، أملا في ابتعاث الهمم، وربما الإشارة إلى حلول ومقترحات إصلاحية.

قلب الطاولة

توحش الآلة (سمير عبد الغني)
توحش الآلة (سمير عبد الغني)

“لا يمكن مواصلة هذه الحياة من دون استعادة القدرة على التنوير والتغيير والبعث”، هذا ما بدا توصيفا مركزيّا لأعمال معرض “كاريكاتير من مصر وروسيا”، بمجرد مطالعتها الأولية؛ فالفنانون تمكنوا بجسارة من قلب الطاولة على عصرهم المرفوض، فهم بإعلانهم عن رفضهم له لم يقصدوا الانسحاب منه، والانزواء خارج المكان والزمان، وإنما عنوا بإعلاء شأن الإرادة، وصناعة الحياة بأيديهم لكي “يستجيب القدر”، وتأسيس عالم موازٍ له أرضية وتاريخ.

تجسدت في المعرض مفاهيم اللغة العالمية للفن، إذ ذابت الخصوصيات المحلية بشكل كبير وتراجعت القضايا النسبية المحدودة أمام توجه الفنانين المصريين والروس إلى الإنساني المشترك، والأوجاع العامة التي فرضت قيودا ومحاذير كثيرة على الكائن البشري المعاصر، وتغلغلت إلى خلاياه وأنسجته بهدف العبث بتركيبتها النقية وفطرتها الطازجة.

انطلقت أعمال المعرض من منصّة ثيمة الفكر والثقافة، والقوى الناعمة على وجه العموم، إذ اتخذ الفنانون مرايا العقل والمعرفة والإبداع والتنوير والقراءة والحروف الأبجدية وما إلى ذلك من مقوّمات الوعي ومغذّيات الروح معابر إلى فضاء البحث عن “الإنسان”، ذلك المخلوق الذي إن لم يستردّ وعيه، فلن يصير بالإمكان العثور عليه، وسيبقى في شروده وضلاله وافتقاده لكينونته.

رأس المعرفة (إجور سميرنوف)
رأس المعرفة (إجور سميرنوف)

على الرغم من لجوء بعض فناني المعرض إلى الأقنعة للتعبير عن اختفاء الملامح الإنسانية وتلاشي المشاعر الطبيعية خلف الابتسامات البلاستيكية والدموع الاصطناعية، فإن الوجه الأكثر بروزا في أعمال المعرض هو ذلك الصلصالي الفج، مثلما خلقه الله، وكما ولدته أمه، وقد تجسد ذلك في المعرض بوضوح، وضمنيّا، من خلال إصرار الأعمال في مجملها على أن تكون ذات شقين؛ الأول: جمالي صرف، والثاني: توعوي أقرب إلى المباشرة، مضمونه الأساسي “تَحَسَّسْ مصابيحَ الاستنارة، وانتبهْ لذاتك الأصيلة أيها الإنسان”.

أثبت فنانو المعرض، ومنهم: سمير عبدالغني، حاتم مصطفى، محمد عفت، نورا مكرم، مصطفى الشيخ، وسعيد بدوي (من مصر)، سميرنوف، زودن، أزيموف، سنشينوف، وسكوبنتيف (من روسيا)، وغيرهم، تلك الطاقة السحرية الفذة لفن الكاريكاتير، والتي تفوق قدرات المخاطبات اللغوية والبلاغية كما في المقالات والمنشورات الصحافية على سبيل المثال، إزاء تحليل المشكلات والأزمات.

فن مرح

المارد المُنقذ (ألكسندر زودن)
المارد المُنقذ (ألكسندر زودن)

تجسدت جماليات اللوحات الخصبة من خلال استيعاب الفنانين المحترفين لخصوصيات الكاريكاتير التعبيرية كفن للمرح والسخرية والمبالغة والتضخيم، ينبني على التحريف وتفجير النسب المألوفة والطبيعية في الملامح والظواهر والمسمّيات، بما يولد المتعة والدهشة والإبهار من خلال المفارقات التي تفصل بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون من عالم بديل يحلم به الفنانون، ويشاركهم فيه الجمهور، الذي يتماهى مع الحالة ليستشعر كل مُشاهد بأن الفنانين يقفون إلى جواره، في الخندق ذاته، ويتحدثون بلسانه.

تغيير مضاد

عكست أعمال الفنانين إيمانهم بأن التغيير السلبي الذي حدث في سائر المجالات، لا سبيل لمواجهته سوى بتغيير مضاد، في الاتجاه الصحيح في هذه المرة، وشكلت الأفكار المشتركة بين الفنانين مظلة فضفاضة تولدت تحتها الخيالات المتقدة الجامحة، والرؤى البصرية المبتكرة المجنحة، لتكون للجماليات الفنية كلمتها الغائية في المعرض، فمن غير الجاذبية والتشويق والإبهار فإن مصير الرسائل الفكرية هو الإهمال.

من صور هذه التجليات التخييلية البارعة، اخضرار الخلايا الآدمية كأوراق أشجار حال انخراط الإنسان في القراءة، والاستعاضة عن جزء كبير من الرأس البشري بصفحات كتاب سميك، باعتبار أن العقل هو المعرفة والاطلاع، واتخاذ أوراق الكتب درجا للصعود إلى السماء، وتفضيل العباقرة التهام الكتب بدلا من الطعام كغذاء للبدن وترقية للنفس.

كشفت خيالات الفنانين كذلك عورات العصر الحديث، بتمثلات مبتكرة، كتلك الأجهزة الإلكترونية الشائعة حاليا، مثل الكمبيوتر والموبايل، التي صارت وحوشا لها أذرع ومخالب تفتك بالبشر وتقتلع رؤوسهم، وتحوّل السوشيال ميديا إلى قناص عملاق يصيد بأسلحة آلية طيور المعرفة والوعي ليُبقي الإنسان في عزلته واستلابه وغيبوبته.

القيمة والأقنعة (حاتم مصطفى)
القيمة والأقنعة (حاتم مصطفى)

 

14